كما كان متوقّعاً، أثارت عملية دمج مطبوعات حكومية ردّة فعل قوية في مصر. السلطة التي وجدت نفسها أمام عبء مالي كبير، تأمل أن تمكّنها هذه الخطوة من مواجهة الإعلام الخاص واستعادة حصّتها من كعكة الإعلانات

محمد خير
هل يمكن أن يتظاهر صحافي احتجاجاً على انضمام زملاء جدد له؟ ممكن جداً. حدث ويحدث في القاهرة لأسباب يندر أن يعرفها سوى المشهد الصحافي المصري. ظاهرياً، ليس هناك فرق بين الاتحاد والاندماج، لكن على أرض الواقع يختلف الأمر. إذ إنّ في الاتحاد قوّةً، أما الاندماج فليس دائماً كذلك، وخصوصاً إذا جاء القرار من سلطات عليا، فيكون عندها دمجاً لا اندماجاً.
لكن هذا ليس وحده السبب في غضب صحافيي «الأهرام» و«الأخبار». المؤسستان المصريتان الحكوميتان شهدتا غضباً تحوّل إلى إضرابات واعتصامات، والسبب: الدمج.
قرار الدمج لا يضم المؤسستين بعضهما إلى بعض، بل يضمّ إلى كلّ منهما إصداراً صحافياً آخر بصحافييه وعمّاله. في حالة «الأهرام»، تنضم إليها «المجلة الزراعية» و«المجلة التعاونية». أما «الأخبار»، فتنضم إليها جريدة «المسائية»، بما لها وما عليها من بشر وحجر. المطبوعات «المنضمة» تنتمي إلى مؤسسة حكومية ثالثة هي «دار التعاون» التي ستنضم، هيكيلياً وإدارياً ومعها مطابعها، وشقيقتها «دار الشعب»، إلى مؤسسة خامسة هي «القومية للتوزيع»، ما سبّب غضباً عند جهات، وفرحاً لدى جهات أخرى، وارتباكاً لدى الغالبية، وخصوصاً القراء!
لا يعرف كثيرون خارج مصر عن صحافتها الحكومية إلا القليل. مثلاً، يعرف القارئ العربي أسماءً كـ«الأهرام» و«الأخبار» و«روز اليوسف»، من بين عشر مؤسسات صحافية حكومية ضخمة أنشأتها وأمّمتها الحكومات المصرية المتعاقبة بعد «ثورة يوليو». وتنقلت ملكية هذه المؤسّسات من هيئة التحرير إلى «الاتحاد الاشتراكي العربي»، لتستقر تحت إدارة مجلس الشورى وملكيته. وهذا الأخير هو الغرفة الثانية للبرلمان المصري. يوماً بعد يوم وعاماً تلو آخر، تقلّصت مبيعات إصدارات هذه المؤسسات وازدادت خسائرها، وبلغت ديونها أرقاماً طائلة من دون أن تفكر الحكومة المصرية بخصخصتها كما فعلت مع غيرها من المؤسسات المملوكة للدولة. لكن كان لا بدّ من أن يصل الوضع إلى لحظة ينفجر فيها.
انطلاقاً من هذا الواقع، وبما أنّه لم يكن ممكناً الاستمرار في ظلّ مجتمع رأسمالي، نشطت الصحافة الخاصة في السنوات الأخيرة وباتت تأكل كلّ يوم نسبة أكبر من حصة السوق، والمزيد من كعكة الإعلانات.
وزاد من أزمة الصحف القومية، أنّ الجرائد الخاصة التهمت أجزاء الكعكة القائمة فعلاً. إذ لم تسفر أرقام المبيعات الصحافية عن زيادة عدد القراء، بقدر ما أفادت إعادة توزيع السوق بين الصحف القائمة. وكل زيادة في مبيع الصحف الخاصة تعني تقلصاً في مبيعات الصحافة القومية، في ظل وضع تشريعي ونقابي لا يتناسب مع تلك الحقيقة. إذ إنّ أكثر من 80 في المئة من أعضاء نقابة الصحافيين ينتمون إلى الصحافة الحكومية، يعمل معظمهم في إصدارات شديدة الركود مقارنة بصحف خاصة كـ«المصري اليوم» و«الدستور»، وأخيراً «الشروق». في ظل هذا الواقع، أصبحت المؤسسات الحكومية تنوء تحت عبء العديد من الإصدارات التي تصدرها كل مؤسسة على حدة، بينما لا يعرف الرواج من إصدراتها سوى مطبوعة واحدة أو اثنتين على الأكثر. ما يعني حكماً ودائماً الخسارة الاقتصادية للمؤسسة ككل، أو في أفضل الأحوال تقلّص الأرباح إلى أقل حد ممكن، وخصوصاً أنّ الرواج والوفرة المادية في الصحافة الخاصة، دفعا بالكثير من أفضل كوادر الصحافة الحكومية إلى الالتحاق بها.
وتُعدّ صحيفة «الشروق» دليلاً صارخاً على هذه النظرية، حتى وصل بأحدهم أن يصفها بـ«أهرام القطاع الخاص»، ليس فقط لأسباب مهنية وفكرية وجماهيرية، بل لأن أهم قياداتها جاؤوا من «الأهرام» الحكومية. في ظلّ هذا العبء الثقيل الذي تبدو فيه المؤسسات الحكومية ككائنات ديناصورية، لا يمكنها القيام بأدنى حركة من دون إثارة الكثير من الغبار، وبذل أقصى الجهد، جاء القرار الحكومي، عبر مجلس الشورى، بضمّ صحف «دار التعاون» إلى مؤسستي «الأخبار» و«الأهرام» ليثير غضب صحافييها. وقد رأى هؤلاء أنّ القرار سيصنع تأثيراً سلبياً حتمياً عليهم، بينما أثلج القرار صدور كثير من العاملين في المؤسسة المعنية بالدمج. إذ نقلوا من مكان اشتهر بأزماته المالية وندرة قرائه إلى مؤسسات ضخمة وغنية تمثّل الحصن الصحافي الأهم للدولة، ما يعني أنّ أوضاعهم ستتحسن هناك حكماً.
من نافل القول إنّه لا الصحافيون ولا نقابتهم ولا المؤسسات نفسها قد استشيرت في ذلك القرار، الذي رأى فيه المراقبون تصرّفاً يقلل بالدمج عبء هذه المؤسسات على الدولة، من دون التخلّص منها، وهو حلّ بيروقراطي عتيد، لن تؤثر فيه احتجاجات صحافيين، يعرفون أن الصحافة الحكومية، هي حكومية قبل أن تكون صحافة!