معرض صالح بركات في «مركز بيروت للفنّ»بيار أبي صعب
يروي صالح بركات، صاحب «غاليري أجيال» البيروتيّة، أنه حين كان يعدّ لمعرض «طريق السلم، لوحات من زمن الحرب ١٩٧٥ ــــ ١٩٩١)» الذي يستضيفه حاليّاً «مركز بيروت للفنّ»، فوجئ بأن بعض الفنّانين لا يذكرون أنّهم رسموا الحرب... وأن آخرين أضاعوا الأعمال التي أنتجوها خلال تلك المرحلة. لقد تركوها في بقعة مظلمة من اللاوعي... واستأنفوا حياتهم الطبيعيّة. قد يخيّل لكثيرين أن الحرب لم تشهد حركة فنيّة تذكر (علماً بأنّها احتضنت إنتاجاً غزيراً)، لأن جمهوراً جديداً تكوّن مع بروز جيل الفنون المعاصرة الذي جاء، في التسعينيات، محمّلاً بالحيرة والأسئلة المقلقة، والإحساس بالفراغ والقطيعة... فإذا بالحرب موضوعه الأثير. عند وصول هؤلاء، كان بعض فناني الجيل الأسبق قد «نسي» الحرب. كأنّه لم يشهد على فظائعها... ولم تترك ندوبها على نتاجه الإبداعيهل قلنا «يشهد» على فظائعها؟ هذا هو الفخّ الذي يستدرجنا إليه صالح بركات، الباحث اللبناني الناشط في سوق الفنّ، من دون قصده ربّما، منطلقاً في قراءته الاسترجاعيّة لتلك الحقبة، من اللحظة الأيديولوجيّة الراهنة التي يختصرها شعار «حب الحياة». هكذا يبدو أن الفنّانين براء من الحرب، أُقحموا فيها... أو أعطي لهم أن يشهدوا عليها من خارجها، كما القديس يوحنا الحبيب شاهداً على يوم القيامة، في ثلاثيّة هانز ميملينغ التي يغزل حولها الباحث والفنّان وليد صادق مقالة لافتة في كاتالوغ المعرض. ولعلّنا هنا أمام إحدى مفارقات هذا المشروع الحيوي الذي يطمح إلى إعادة الاعتبار لمرحلة حاسمة في مسار الحركة التشكيليّة اللبنانيّة. إذ كيف نغفل أن معظم الفنّانين الذين ارتبطت تجاربهم بموضوع الحرب، كانوا طرفاً فيها، ولم يكتفوا بالنظر إليها من بعيد؟
لور غريّب التي نكتشف في منمنماتها (حبر على ورق، ١٩٨٤) رجلاً وامرأة مصنوعين من كلمات الحرب ومذكراتها، كانت من أنصار بشير الجميّل. الراحل بول غيراغوسيان، في ثلاثيته بالحبر الأسود عن قلعة الشقيف (١٩٧٨) يحيّي المقاومة الصامدة في وجه العدوّ الإسرائيلي. يبدو ذلك واضحاً في ملصق صمّمه ضمن السلسلة نفسها، وعرضته زينة معاصري في «علامات النزاع». (لا تكتمل الإحاطة بتلك المرحلة، من دون فن الملصق، الأساسي وقتذاك، والذي خاض فيه معظم الفنانين الحاضرين في «طريق السلم»). سيتا مانوكيان التي يعرض لها عملان «بلا عنوان» (زيت على خشب ـــ ١٩٧٩) كانت شيوعيّة، منخرطة في الصراع. والمؤكد أن سمير خدّاج ومارك موراني، من خلال رصدهما التصويري والهندسي للواقع اليومي ومعاناة الجماعة («الجسر» ١٩٨٣، و«الرينغ» ١٩٨٨ ــــ أكريليك على خشب)، لم يكونا بعيدين عن المناخات نفسها. ما قادهما إلى العمل ضمن محترف جماعي مع مانوكيان، وإميل منعم الذي نأسف لغياب أعماله عن المعرض، شأن آخرين اقترنت تجربتهم بالحرب مثل جان ــــ مارك نحّاس.
وماذا نقول عن جميل ملاعب الذي يعرض صالح بركات مجموعة رسوم له (طباعة) «من دفاتر الحرب الأهليّة»؟ والراحل رفيق شرف في رسمين بالحبر يعودان إلى عام ١٩٧٦، يقولان الانقسام والعنف وفيهما حصانه الأثير رمز الوجدان العربي الجريح؟ هل نغفل هوس فؤاد خوري في أعماله الفوتوغرافيّة بالأبيض والأسود (٨٢ ــــ ٨٣)، بفكرة خروج المقاومة الفلسطينيّة، ومذابح صبرا وشاتيلا، وزوال لبنان القديم، وفكرة العبور...؟
بين الفنّان «الشاهد»، والفنّان «المنحاز» الآتي من صخب السبعينيات إلى المعمعة، خيط رفيع يلازمنا في جولتنا على أعمال تحكي الدمار والتشرذم والرحيل والعجز والغضب والذعر. الخوف في «وجوه» الراحل جان خليفة (زيت على خشب، ١٩٧٦)، ولوحات للراحل عارف الريّس (زيت على كانفاس) تفكك الفضاء العام والكائنات... فيما ترصد رسوم الريّس التي حققها أول الحرب (طباعة)، ونشرت في كتاب أعطى للمعرض عنوانه، مشاهد صاخبة تحضر فيها المجاميع ويضيع الأفراد في لعبة الانتظار والموت.
ونواصل الرحلة بين كولاج ليوميات الحرب، ونحت من بقايا قذائفها. بين تصويريّة وتجريد، تفجّر لوني وطغيان للأسْود. أوديل مظلوم وتيو منصور، غادة جمال وحسن جوني، فريد حداد وساميا عسيران جنبلاط، محمد الرواس وجنان مكي باشو. منحوتات سلوى روضى شقير (خشب وألومنيوم) المشغولة بجمع النقيضين. وفي خلفيّة الصالة موعد من نوع خاص مع عماد عيسى، من خلال تجهيز يدعونا فيه إلى جنازته. أما المحطّة الأولى (والأخيرة) عند مدخل المعرض، فإحدى جداريات عبد الحميد بعلبكي (زيت على كانفاس، ١٩٧٦) التي قالت الحرب في سنواتها الأولى...
إذا كان «فقدان الذاكرة» موضوعة محوريّة، ليس في خطاب هذا المعرض فحسب، بل في تاريخنا الثقافي ــــ والسياسي ــــ المعاصر... فذلك يزيد من أهميّة الشغل الأركيولوجي الذي يدعونا إليه صالح بركات. إنّها خطوة أولى، متعجّلة ربّما، إنما أساسيّة في مشروع المراجعات الفكرية، وعمليات فحص الضمير الفردي والجماعي، وإعادة الاعتبار إلى الماضي القريب المؤلم، بصفته أيضاً أرضيّة خصبة لكل التجارب والأسئلة وتصوّرات المستقبل.