تركناه على رأس مؤسسة أمنية ترتعد لها فرائص الجمهوريّة، فإذا به يعود إلى الشاشة رجلاً سياسيّاً يتحلّى بكاريسما لا تقاوم، وحضور ذهني متوقّد، وخطاب ديموقراطي متماسك. لم يبقَ إلا أن نقطع مع منطق الماضي وبقعه المظلمة
بيار أبي صعب
الطريق كانت طويلة، بين سجن روميه والمنبر المرتجل الذي اعتلاه اللواء جميل السيّد، في جوار منزله ليخطب بعفويّة، الأمر الذي لم يكن يتوقّعه حسب اعترافه. طريق طويلة وشائكة بين مكتب المدير العام للأمن العام اللبناني في زمن آخر... والزنزانة الانفراديّة الفسيحة التي أقام فيها دهراً... وهذا المنبر الذي يعلن بداية مرحلة جديدة. هكذا مباشرة على الهواء، أمام كاميرات التلفزيون ــــ هذه الأغورا المعاصرة ــــ ولد رجل سياسي. بأسلوب خاص ونبرة جديدة، جاء يقلب بعض المعادلات على الساحة العامة.
في اليوم التالي على شاشة «المنار» أطلّ مجدداً في حلقة ماراتونيّة مع عماد مرمل، ليؤكد على تلك الولادة. لقد خلع البذلة العسكريّة ليستبدل بها ملابس رجل السياسة الذي يتكلّم علناً، يشرح ويبرّر، يحاجج ويساجل ويقارع، يفتح الملفّات ويكشف الحقائق ويضع الإصبع على الجرح. قدّم قراءته للصراع الدائر. قال جهاراً ما يهمس به في الكواليس، فيتسرّب لاحقاً إلى الرأي العام كالأوبئة. ولم يتردّد في خوض مواجهة حازمة، وموجعة أحياناً، إنما ممزوجة غالباً بتهذيب وانضباط، بخلقيّة المحاور، ومسؤوليّة السياسي الذي يحترم التعدّديّة، يرفض المحسوبيّات، ويعتبر السلم الأهلي خطّاً أحمر.
ينسى الرجل الكاميرا. ثم يتذكّرها فجأة، ويتعامل معها بمهارة، حين يحتاج إلى مخاطبة الرأي العام. يقطع مع الصورة السائدة عنه في المخيّلة الجماعيّة لرجل غامض، قابع في ظلمة مكتبه، يحرّك الخيوط الخطيرة في عهد الوصاية الذي كان أبطال ثورة الأرز متورّطين فيه حتى آذانهم... رجل أمن قاسٍ تخشاه الجمهوريّة، يدرس الملفّات، ويمنع الكتب والأفلام. يعتقل المعارضين ويطارد الصحافيين. تلك المقدرة على الغواية، كادت تنسينا أموراً كثيرة... أن الرجل الذي أمامنا على الشاشة خارج من سجن انتظر فيه ثلاث سنوات وسبعة أشهر و٢٧ يوماً كي يغسل شرفه. بدا كأنّه في الحلبة السياسيّة منذ وقت طويل، لا رجلاً خرج من السجن قبل يومين! وأنسانا أيضاً أننا في حضرة عسكري، رجل أمن واستخبارات، يخطو خطواته الأولى في الفضاء العام، يدخل لتوّه اللعبة الديموقراطيّة التي كانت علاقته بها معتكرة في حياة سابقة. في بلد غير لبنان، هذا التحوّل يتطلّب وقتاً، ومراحل انتقاليّة... لكنّنا بلد الأعاجيب الصغيرة، منذ الاستقلال وربّما قبله بكثير.
بمعزل عن الإجحاف الحقيقي الذي لحق باللواء المحرّر طوال هذا الوقت، تحت وطأة الفجور السياسي وبؤس مؤسساتنا الإعلاميّة والقضائيّة... لا بدّ من التخلّص تماماً من شبح الماضي، للقبول بجميل السيّد رجلاً سياسيّاً، والاستسلام لغواية خطابه، الآن وهنا. جمل صغيرة، هنا وهناك، في حديثه تذكّرنا بماضي الرجل الذي أدار المؤسسة الأمنيّة سنوات طويلة. حين يستعيد مثلاً اعتقال «العونيين» والمعارضين من باب المداعبة... حين يستعيد فصل مطاردة سمير قصير والتضييق عليه. «كل ما فعلناه أننا سحبنا جواز سفره ١٤ يوماً» يقول، لأنّه أغضب المؤسسة العسكريّة بمقالته «عسكر على مين». يستعيد ذلك، من دون أدنى اعتذار، كأن سلوكه يومذاك كان في منتهى الطبيعيّة...
كثير من الذين يأملون انتصار المعارضة في الانتخابات، ويعملون من أجل ذلك على الأرض، يمتلكون تصوّرات أخرى عن دور المؤسسة الأمنية: جهاز أمن عام يكفّ يده نهائيّاً عن الرقابة على أشكالها، لتناط المهمّة بمؤسسات مدنيّة وتخضع لقوانين جديدة. وبلد يحقّ فيه لأقران سمير قصير أن يكتبوا ما تمليه ضمائرهم، وينتقدوا من يشاؤون ــ دونما خوف من قصاص ــ حسب الأعراف الأخلاقيّة والمهنيّة التي يحددها القانون ويفصل فيها القضاء وقد استعاد نزاهته واستقلاليّته.
هناك تفصيلان آخران وردا في حديث اللواء السيّد على «المنار». في معرض تسخيفه للذهنيات الضيّقة التي تتاجر بالنعرات المذهبيّة، أراد أن يذكّرنا أن السيّدة عقيلته من عائلة سنيّة. فقال لمحاوره «اعمل لها فحص دم لتتأكد من ذلك». طبعاً هذه مجرّد مبالغة عفويّة لا خلفيّة لها، لكنّ الرجل السياسي ينتبه إلى كلمات عادةً، ويتجنّب فخاخ اللغة القاتلة. دمنا لا يشير إلى لوننا أو مذهبنا أو انتمائنا الفكري، فقط إلى إنسانيتنا. النقطة الثانية تتعلّق بـ «هضامة» وليد جنبلاط التي أوردها كأحد الأسباب التخفيفيّة لحدّة الخلاف معه. هل الهضامة حقّاً من المقوّمات الأساسيّة للرجل السياسي؟ هل تأتي قبل النزاهة والاستقامة واحترام الرأي العام، وتحمّل مسؤوليّة الخيارات والتصريحات والمواقف وتبعاتها؟ هل يحتاج المواطن إلى مهرّجين يؤمّنهم على مصيره؟
في نهاية الحلقة مع مرمل على «المنار»، نهض السيّد اللواء بعصبيّة عن طاولة الحوار قبل انطلاق الجنريك. طبعاً علينا أن نتفهّم تعبه وغضبه وكل ما يعتمل في وجدانه الجريح... لكن مهنة «السياسي»، مبدئيّاً، تتطلّب انضباطاً كبيراً قد يفوق الانضباط «العسكري» بدرجات. هذا هو ثمن الحفاظ على النظام الديموقراطي ودولة المؤسسات والاستقرار الأهلي. من معموديّة النار للرجل السياسي ـــ قبل مواجهة الحشود البقاعيّة في النبي أيلا ـــ نحبّ أن نحتفظ بصورة كيس الأقلام الفارغة التي استعملها في سجنه. مقاومة الظلم بالقلم، والحبر المهدور لقياس الزمن الضائع. ليس ضائعاً تماماً ذلك الزمن، لأنّه كان حافلاً بالدروس والتحوّلات. جميل السيّد، الرجل السياسي الذي يطالب بـ«المحاسبة» ويستبعد «الانتقام»، قد يذكّر من بعيد بشخصيّة فيروز في مسرحيّة «لولو» الشهيرة... ولعلّه أقرب إلى الكابيتين ألفريد درايفوس الذي ما زالت فرنسا تحمل اسمه وصمة عار يصعب محوها رغم مرور الزمن.