من أطفال الشوارع إلى دور المرأة في المؤسّسة الزوجية، مروراً بجرائم الشرف والرقيق الأبيض، تتنقّل كاميرا «قلوب صغيرة» في سابقة قد تكون الأولى من حيث معالجة القضايا الاجتماعية في قالب درامي
رائد وحش
يُتوقّع أن يُسجّل مسلسل «قلوب صغيرة» علامةً فارقةً في تاريخ الدراما السورية لجهة التعاطي مع الإشكاليات الاجتماعية. ويُتوقّع أيضاً أن يشكّل عرضه في رمضان المقبل فاتحةً لطرح أسئلة تخصّ علاقة الدراما التلفزيونية بسوسيولوجيا المجتمع السوري، وخصوصاً في ظلّ ظهور عدد من «الآفات الاجتماعية» سببها غلاء المعيشة وانخفاض معدلات النمو. وكانت هذه الدراما قد تطرّقت مرات عدة إلى ظواهر ومشاكل اجتماعية، لكنّها لم تتعمّق في معالجتها، بل اكتفت بعرضها بطريقة سطحية، إما لضعف في النصوص أو لأسباب رقابية.
«قلوب صغيرة» إذاً ـــــ كتبته الحقوقية ريما فليحان بالتعاون مع الممثلة يارا صبري ـــــ سيكون مختلفاً عن الأعمال التي اعتادها الجمهور السوري والعربي. تنطلق القصة من تجارب حقيقية، استوحتها الكاتبة من معايشتها للشخصيات في الواقع من خلال نشاطها في المجال الاجتماعي. كذلك، يقوم العمل على وجهة نظر علمية وحقوقية من جهة، وعلى رؤيا فكرية تضع هذه القضايا من دون مواربة في نصابها من جهة أخرى. واجه إنتاج المسلسل مشاكل عدّة مع الرقابة، لكنّ الإصرار على إخراجه إلى الضوء انتهى بالموافقة على تصويره.
المسلسل الذي أخرجه عمار رضوان، وأنتجته شركة «غزال»، يطرح جملة من المشاكل بـ«طريقة تجعل الناس يشاهدونه بشغف» تقول يارار صبري لـ«الأخبار». أما أحداثه فتدور حول شخصية الناشطة الاجتماعية سلام (صبري)، وهي امرأة تحمل في داخلها جروحاً نفسية كثيرة نتيجة معاناتها خلال الطفولة. كذلك فإنّ حياتها الزوجية في تأرجح مستمر مع زوجها كريم (سلوم حداد). هذا بالإضافة إلى شبكة علاقات إنسانية ترصد واقع المرأة السورية من خلال الحياة الاجتماعية لسلام وصديقاتها اللواتي يشاركنها المعاناة نفسها مع أزواجهن. وهنا ثمة طرح يتعلّق بقضية المرأة التي تدافع عن الحقوق الاجتماعية ودورها في تأكيد حقوقها داخل مؤسسة الزواج. تجسّد هذه الشخصيات مجموعة ممثلين سوريين منهم: منى واصف وليلى جبر وماهر صليبي وشكران مرتجى وأمل عرفة وعبد الحكيم قطيفان وميرنا شلفون، بمشاركة نحو خمسين طفلاً، قاموا بأدوار أطفال الشوارع.
أمّا القصص التي تقوم عليها هذه الدراما الاجتماعية فتشكّل بانوراما لشرائح مختلفة من المجتمع السوري، وخصوصاً الأطفال المشردين. وجاء العمل ليطرح للمرة الأولى مشاكل هؤلاء على الملأ. ويتطرّق بطريقة واضحة إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي قادتهم من العيش في كنف عائلة وفي مدرسة إلى الشقاء في الشوارع. إضافة إلى هذا العرض الاجتماعي، يسلّط المسلسل الضوء على نتائج هذه الحياة من جرائم الشرف والرقيق الأبيض وعصابات التسوّل... كل ذلك سوف نراه من خلال حركة سلام وصديقاتها في عملهن ونشاطهن الإنساني، ما يعني أنّ العمل سيدخل إلى واقع منظمات المجتمع المدني في سوريا التي تصفها فليحان بالـ«ضعيفة... وغير القادرة على القيام بدورها». كذلك يحضر القضاء ودور الأيتام والمدارس والسجن والجمعيات الخيرية... لأن المسلسل يريد أن يتكلّم عن «آليات العمل ومواطن الخلل في كل المؤسسات» كما تقول الكاتبة.
وبالعودة إلى الأعمال السابقة التي حاولت معالجة المشاكل الاجتماعية، نجد أنّه لطالما تعامت الدراما السورية عن المشاكل الجوهرية في المجتمع السوري، رغم محاولاتها اقتحام قضايا شائكة. إلا أنّها كانت تمر عليها مروراً عابراً لمصلحة حكاية مسلية في المقام الأول، وذلك على حساب الرسائل.
كذلك، كانت طريقة الطرح تشوبها عوائق كثيرة، فمشاكل الشباب التي طُرحت في كثير من المسلسلات التي تناولت قضايا شباب اليوم كالإيدز، كانت تأتي غريبة تماماً عن الواقع، كأن الأحداث تجري في ضواحي نيويورك. هنا، كما تؤكد الفنانة صبري، تقف الدراما أمام مسؤولياتها لأنها «معنية بالإنسان والمجتمع»، وأهمية النص تأتي من توفيقه بين الجوانب الفنية والرسائل المكثّفة والأسئلة المفعمة بألم عالٍ: ما الذي يعتمل في نفوس الأطفال الذين يعيشون بلا طفولة؟ كم فشلت هذه المجتمعات المغلقة في إنتاج بشر متساوين؟ إذا كانت الحياة تغيب عن الأطفال، فأي صورة تلك التي ستكون للمستقبل؟ كيف للمرأة أن تكون متمكّنة من ذاتها وهي منذورة لحصارات لامتناهية؟ ما حيلة المواطن أمام ارتباك أجهزة الدولة ومؤسساتها؟
هكذا سيكون المشاهد مدعواً إلى جرعة عالية من الألم، ولعل السؤال المضمر هو: كيف لعمل يقف وراءه إحساس أنثوي أن يكون بهذه القسوة؟ يارا صبري تجيب: «فليصدم الناس كي ينتبهوا إلى الموضوع بجدية أكبر. الصدمة هدف، وهذا العمل بمثابة معركة مع كل القواعد الموجودة في الدراما».


دراما «نفسية»

بعد «قلوب صغيرة» أنجزت يارا صبري (الصورة) وريما فليحان نصّاً جديداً بعنوان «قيود عائلية». يرصد هذا المسلسل التفاصيل الصغيرة التي تصنعنا كبشر، وترسم صورنا، ويطرح أسئلة حول ارتباط مصير المصائر بعضها ببعض، وتشابه الناس في ألمهم ولذتهم، من خلال علاقات وروابط سريّة توحّد الناس وتؤثر بهم حتى عندما لا يعرفون بعضهم. ويُتوقع أن يبدأ تصويره قريباً. وطبعاً يتمّ تسليط الضوء على هذه القضايا الاجتماعية والنفسية في قالب درامي، ما قد يكون علامةً إيجابية وتحوّلاً في صناعة الدراما السورية من خلال التركيز على القضايا التي يعيشها المواطن العربي في حياته اليومية