عوالمه العبثيّة، خوفه وهشاشة سلامه الداخلي، فشله في العلاقات ومرضه... كلّ ذلك نقرأه في الترجمة العربيّة ليوميات فرانز كافكا. وخلفه يكتب صاحب «المحاكمة» عن الكتابة، «ذلك الوميض الصامت»
محمد شعير
على مدى 13 عاماً (1910 ـــــ 1923)، سجَّل الروائي التشيكي، الألماني اللغة، فرانز كافكا (1883 ـــــ 1924) يومياته، وأهداها إلى صديقته ميلينا، راجياً إيَّاها ألا يراها أحد قبل وفاته. صديقه ماكس برود حصل على اليوميات ونشرها لاحقاً «غير مكتملة» عام 1937، ثم كاملة في أوائل الخمسينيات. في «يوميات فرانتس كافكا» (هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، ترجمة خليل الشيخ) هناك شيء مشع جداً. لا يمكنك أن تسميه خبرة كتابة فقط، أو حتى خبرة حياة، بل مزيجاً من الاثنين. كاتب يستطيع أن يحوّل كل شيء حوله إلى فكرة، يستطيع أن يفكر لك، وأن يدفعك إلى التفكير، ويجعلك إنساناً كما لو أنّك تبصر الحياة من نظّارة كاشفة.
من هنا، تأتي أهمية اليوميات، فهي ليست مجرد صفحات تحفظ أخباره وذكرياته، بل مرآة يتعرّى أمامها من دون خوف أو خجل. نطالع هنا أحلامه وكوابيسه وتأمّلاته الفلسفية وتفاصيل حياته اليومية ومشاريعه لقصص مقبلة. نطالع فيها أيضاً قصصاً لم تكتب وتعليقات على ما يقرأ مِن كتب والعديد من رسائله الخاصة إلى جانب عشرات القطع النثرية القصيرة، وأحياناً نقع على قصص مكتملة. سنجد أنفسنا باختصار أمام «الكتابة في حالتها الخام»، أو الرواية من دون ماكياج قبل أن تمتد إليها يد الفنان حذفاً وتزييناً. ميزات تجعل من الكتابة الخام هذه إبداعاً موازياً ومفسّراً للعمل الأدبي. لهذا كلّه يعتبر المترجم إبراهيم الشيخ «اليوميات» «نصاً شارحاً يضيء الكثير من أبعاد تلك النصوص، ويفسّر غوامضها، (...) ويلقي أضواء كاشفة على دواخل عالم كافكا وأزمات هذا العالم وما شهده من اضطراب وإحساس باللاجدوى».
ربما هذا ما يلحُّ عليه كافكا على مدى صفحات الكتاب: «لن أغادر هذه اليوميات بعد ذلك، ففيها ينبغي أن أربط نفسي لأنني أعجز عن فعل ذلك في مكان آخر. يطيب لي إعلان مشاعر الفرح التي أمرّ بها بين الفينة والأخرى كما هي حالي الآن. إنه أمر يبعث على النشوة. إنني مملوء برعشة خفيفة ومريحة، وإنني أدّعي لنفسي المقدرة على إقناع ذاتي بعمق في كل اللحظات بعدم الوجود».
تقدّم لنا «اليوميات» صاحبها بصورة غير التي عرفها النقاد. هو هنا ليس الكاتب الحزين المتشكك دائماً، المنعزل العاري في «مواجهة قوى خفية» فقط، بل ثمّة كافكا آخر، ساخر وعاشق نكتة. يكتب في 11 تموز (يوليو) 1913 «خلاصة الحجج التي تقف مع زواجي وتُعارضه»، مقدّماً سبعة أسباب: «إنني عاجز عن تحمّل الهجوم على حياتي الخاصة، وطلباتي الشخصية، وهجمات الزمن، والشيخوخة، والضغط المبهم للرغبة في الكتابة والأرق والقرب من الجنون. إنني لا أستطيع احتمال ذلك وحدي». لكن على الجانب الآخر، يوضح: «إنني أكره كل ما لا علاقة له بالأدب، وتجعلني الحوارات (لا سيّما تلك التي لا علاقة لها بالأدب) أصاب بالملل مثلما يضجرني قيامي بزيارات». المدهش أنّنا نجد أنفسنا أمام رجل مولع بالفشل في العلاقات. لكنّ اليوميات تقدّم إلينا أيضاً «ما طرأ على عالم الكاتب من تحولات». حركات هذا العالم الكفكاوي تتولد من الإحساس المطلق بعجز الإنسان وعبثية وجوده. الأمل الباهت الذي كان يلوح من حين إلى آخر يتحوّل إلى يأس عميق، والإحساس بالسلام الداخلي الهش يغدو لوناً من الاضطراب، والرغبة في مجابهة العالم تصير لوناً من التوحد، تماماً مثلما يصبح هاجس الموت مسيطراً بعد سقوط كافكا فريسةً للمرض. هكذا، نجد أنّ كلمة «الخوف» تتردد بقوة في اليوميات. الخوف لا يمنح الإنسان سوى «سعادة منقوصة»، وعندما يحبّ «سيدفن الحب تحت الخوف وتأنيب الذات». هكذا، يكتب في آب (أغسطس) 1913: «حدث عكس ما تمنيت، وصلتني ثلاث رسائل، لم أحتمل الأخيرة... إنني أحبها قدر استطاعتي، إلا أن الحب دفن حيّاً تحت الخوف وتأنيب الذات».
تكشف «اليوميات» دور الكتابة في حياة كافكا، باعتبارها «ذلك الوميض الصامت». نطالع معاناته في تدقيق أعماله: «إنّ معظم الكلمات التي أكتبها لا ينسجم بعضها مع البعض الآخر. إنني أستمع إلى الحروف الصامتة وهى تحتك بعضها ببعض على نحو صفيحي، وإلى الحروف الصامتة وهي تغنى كأنها زنجي في معرض. إن شكوكي تحيط مثل الدائرة بكل كلمة... يوجب علي أن أخترع كلمات تكون قادرة على نفخ رائحة الجثث في اتجاه لا يصيبني مثلما لا يصيب القارئ مباشرة».