المعرض الذي أُقيم في غاليري «آرت هاوس» الدمشقية حمل عنواناً استفزازياً (4×4=52). التشكيلي السوري يواصل خلخلة الثبات في لوحته، محطّماً بنيتها المركزية
خليل صويلح
كان علينا أن نقف طويلاً أمام جدارية أحمد معلا الجديدة كي نمسك بتخومها المحتشدة بالإشارات والتأويلات. ما إن نزلنا الدرج الحجري لغاليري «آرت هاوس» الدمشقية، نحو القبو الذي كان يوماً مطحنةً على كتف نهر بردى، حتى وجدنا أنفسنا مشدودين إلى هذه الجدارية الضخمة التي أرادها التشكيلي السوري المتمرّد تحيةً إلى أبي العلاء المعري. سنتوغل تدريجاً في جحيم الفيلسوف الأعمى: حشود بشرية في كتل متجاورة، ومتراصة، ومتنافرة، تنبئ عن هلاك، على وشك أن يقع بعد قليل. من هذه الجدارية، ستتناسل رؤى كونية لعالم جحيمي ومفزع. ذلك أنّ أحمد معلا ـــــ خلال إنجازه معظم لوحات هذا المعرض ـــــ كان مسكوناً بأحداث غزة الأخيرة. وإذا بها تترك بصماتها على ريشته، ليس من موقع التأثر المباشر، بل بما طرحته من أسئلة عن مصائر بشر وجدوا أنفسهم في قلب النار، أو في ما يشبه يوم الحشر. اللجوء إلى المعري إذاً، أتى من باب وصف الجحيم الدنيوي في أقصى تجلّياته.
تتناوب على سطح اللوحة مسوخٌ وكائنات نورانية، وجموع تقف عند حافة هاوية، بدا أنها أضاعت طريق النجاة، كأنّ كل ما يرسمه معلا، في النهاية، صيحة استغاثة وإعلان نفير.
المعرض الذي أُقيم أخيراً، حمل عنواناً استفزازياً (4×4=52)، ينطوي على تحدٍّ لصاحبه في الدرجة الأولى، سواء لجهة خلخلة الثبات في لوحته، وتحطيم بنيتها المركزية، أو لجهة اللون والبعد البصري. هناك قلق واضح في وضع اللمسات الأخيرة على اللوحة، بدليل أنه يجرّب ألواناً أخرى في المناخات نفسها، في عملية محوٍ مستمرة، وصولاً إلى يقينٍ لن يكتمل أبداً. هذا التكرار بصياغات تشكيلية مختلفة، لعله محاولة اقتناص لحظة هاربة، يسعى معلا ـــــ من دون هوادة ـــــ إلى اقتفاء أثرها، من تخوم الفرات، المنطقة التي شهدت تشكّلاته الأولى، إلى البحر، مسقط سلالته. بين هذين البرزخين، تتناوب مغامرة اللون، وعملية الهدم والتعرية. كذلك فإن اللوحات الـ52 التي اشتملها المعرض تساوي سنوات عمر هذا الفنان، بما يشبه سيرة ذاتية، وجردة حساب، ومراجعة لمحترفه. لوهلة، لن نجد منعطفاً واضحاً، يفصل بين منجز معلا في معارضه الأخيرة، ومعرضه الحالي. لكنه ههنا يوغل في التجريب، وخصوصاً بإدخاله الحروفية بوصفها جزءاً أساسياً من مقترحه البصري. هي تتماهى في نسيج اللوحة، إلى أن تشفّ إلى حدود التجريد. الحرف هنا لا يقود إلى معناه، بقدر ما يقترح صياغات جمالية، نادراً ما اعتنت بها اللوحة العربية في هذا السياق. كأن اللون هو من يقود إلى المعنى، في شحنة تعبيرية تتجاوز ما هو زخرفي وهندسي إلى فضاء تصويري، يستنفر الحواسّ، ويحلّق بها إلى تخومٍ شرقية أصيلة، تزاوج قيم الخط العربي ومقترحات الحداثة في إطارٍ واحد.
لكن من هو أحمد معلا تماماً؟ هل هو الغرافيكي أم الخطاط، أم المصمم الإعلاني، أم المصوّر؟ في الواقع، هو كل هؤلاء جميعاً، وهذا ما نلمحه في عمق اللوحة، على نحوٍ أو آخر. في تلك المراوغة في الخطوط والكتل والفراغات، وقدرته على صوغ سينوغرافيا تجمع شخوصه على سطحٍ واحد، وفي تكوينات مرئية مكثفة ومتناقضة في آنٍ. لعلها وحدات سردية تقول الشيء ونقيضه بارتجالات لونية، تضع الأزرق مكان الأحمر، والأصفر بدلاً من الرمادي، في هتك معلن للوصفات الجاهزة، وتمرّد على كل ما هو مقدّس في تاريخ اللون. لنقل إنّ معلا كان يتحدى نفسه، في المقام الأول، ذلك أنّ ما يقتنع به اليوم، ينسفه غداً، في عملية احتجاج صارخة وعبثية على كل ما هو مستقر في ذائقته أولاً، وذائقة المتلقي ثانياً. وإذا به يطيح المنظور، لنجد أنفسنا مرة أخرى، نهباً لجهات جديدة ومتعاقبة، وبهجة مباغتة في اللون والإشارات. هناك توق إذاً إلى فضاء آخر، وإيقاع مشرقي أصيل، كان لا بد من أن يصله بعد مكابداته الطويلة في الخروج من جحيم محيطه، إلى جنة دنيوية، في مروحة كبيرة من الأطياف والمتناقضات.