أحد أبرز نصوص مرحلته الأخيرة، وأكثرها إثارة للجدل، في رؤية إخراجيّة تنتزعه من تاريخيّته لتزرعه في اللحظة الراهنة. جلسة «سمر» مع الكاتب االسوري الراحل الذي تجرأ على المحرّمات
خليل صويلح
بدا المخرج الفرنسي وسام عربش في عرضه «طقوس الإشارات والتحولات» المأخوذ عن نص سعد الله ونوّس، منهمكاً بالخطة الإخراجية في المقام الأول، تاركاً النصّ والممثّلين في مهب السينوغرافيا، ولعبة تحريك الديكور هيدروليكيّاً. ما أفقد العرض بعضاً من ديناميكيته وإيقاعه لجهة أداء الممثل، إذ كان عليه، أي الممثل، أن ينتظر دوران الديكور الموزّع على قاعات متجاورة في طبقتين، وأحياناً ثلاث طبقات، كي يؤدي المشهد المطلوب، قبل أن يدور الديكور مرةً أخرى، نحو فضاء آخر ليشتبك مع حكاية أخرى.
هذا الارتباك لا يمنع الإشادة بجمالية الفكرة مشهدياً، والحلول البصرية لتقطيع النص تبعاً لحكاياته المتجاورة والمتوازية، في متوالية سردية مرهفة وشاعرية وطليعية، كان مركز الثقل فيها حكاية «مؤمنة»، وزوجها «نقيب الأشراف»، ولعبة تزييف الحقيقة التي يقوم بها المفتي بموافقة الوالي. هكذا يفتتح العرض بمشهد بين عاهرة تدعى وردة، ونقيب الأشراف، يقع ضحية مؤامرة يقوم بها قائد الدرك، تؤدي إلى فضحه وعزله من منصبه، ثم تلملم أذيال الفضيحة بأن تنخرط مؤمنة في اللعبة، وتُستبدل وردة، بمؤمنة سراً، ويُسجن من كشف الواقعة الأصلية، ليظل يردد إلى نهاية العرض «أين تكمن الحقيقة؟».
لن تتوقف الحكاية عند هذه الإشارات إلى تواطؤ السلطة مع المؤسسة الدينية في حبك المؤامرات والدسائس حفظاً لمصالحها، بل تنتقل الحكاية إلى مؤمنة التي تتحوّل إلى عاهرة باسم ألماسة، وتنضم إلى «كار» وردة التي كانت خادمة في بيت والد مؤمنة، ثم عشيقة سرّية للأب والابن، قبل أن تُطرد من البيت.
تنطوي تحوّلات مؤمنة على دعوة للتمرد على تابوهات اجتماعية مغلّفة بزيف ذكوري تاريخي، وتمرينات على لحظة حرية مقموعة، لم تكن متاحة قبلاً، ما يؤدي إلى مقتلها في نهاية العرض، كأن وأد الحقيقة والحرية مطلب تاريخي للسلطة الفاسدة. قد يبدو تحوّل امرأة تنتمي إلى طبقة الأشراف إلى عاهرة، صاعقاً، لكن سعد الله ونوس، أرادها صرخة أنثوية لإماطة اللثام عن مجتمع يتلفّع بقيم الحشمة والنزاهة والإيمان بوصفها قشوراً لممارسات ينبغي أن تظهر إلى العلن.
هكذا تُنزع الأقنعة عن شخصيات تتخبط بنزواتها، وإذ بها تتدثر بالعفن الذي ينخر داخلياتها ومكبوتاتها، فالمفتي يقع في هوى ألماسة، ونقيب الأشراف يطارده طيف والده، بأن يتطهر من أدران جسده، وكأن وردة وحدها من يعيش لحظة الحقيقة من دون زيف أو مراوغة.
المخرج وسام عربش، السوري الأصل، أراد أن ينزع النص من لحظته التاريخية، ويضعه في اللحظة الراهنة، ذلك أن محرّمات الأمس وتابوهاته الاجتماعية، لم تطاولها التحوّلات، ومن ارتدى الزي العصري بقي متمسكاً في الواقع بجلده القديم، وقيمه البالية، وأقنعته التنكرية. لعل هذا ما ألحّ عليه نص ونّوس الذي اقتحم مناطق شائكة، وأخذ بحراثتها وتقليب تربتها من دون مواربة.
العرض الذي شهدته دار الأوبرا في دمشق أخيراً، وستشهده مدن سورية أخرى، أسهمت في إنتاجه جهات سورية رسمية، وجهات فرنسية (مسرح لوف آديبا)، مقترح جريء وشجاع وباهر، رغم مطبّاته الطفيفة، على صعيد إعداد النص، وإدارة الممثل، وربما تنبغي الإشارة هنا، إلى أداء ناندا محمد التي لعبت دور وردة، وحلا عمران في دور ألماسة، وكفاح الخوص في دور المفتي. مكابدات هذا النص محلياً، تشبه مكابدات شخصياته. إذ سعت المخرجة الألمانية فريدريكه فيلد بيك سابقاً لتجسيده على الخشبة السورية، لكنها لم تحقّق رغبتها، على الأرجح لأسباب رقابية. أما هذه النسخة الإخراجية لـ«طقوس الإشارات والتحوّلات» فهي الأولى التي تشهدها دمشق، عدا العرض الذي قدمته نضال الأشقر في بيروت، وزيد مصطفى في عمّان، قبل سنوات.