«موشحّات» نادرة بقيادته أصدرتها جمعية «عرب»

اسمٌ يعرفه جيداً جمهور الطرب الأصيل في لبنان، لكنّ إقامته المصريّة جعلته، ربّما، بعيداً عن الأجيال اللاحقة. اليوم يعود بأسطوانة جديدة تحوي باقة موشّحات لملحّنين بارزين من القرنين الماضيَين، تؤديها «فرقة بيروت للموسيقى العربية»

بشير صفير
لم تحرص أي مؤسسة ثقافية رسمية أو خاصة، في تاريخ لبنان الحديث (والعالم العربي؟)، على الموسيقى الشرقية والأغنية العربية الأصيلة، كما فعل آل سحّاب. غاص الإخوة الثلاثة إلياس وسليم وفيكتور في بحر هذا الإرث الضخم، وبذلوا جهوداً غير عادية لاحتضانه وإنعاشه كي لا يلقى مصرعه على أيدي المنهمكين في تسخيف الذائقة الفنية لدى الجمهور العربي. ولمّا كان من المستحيل الإحاطة بهذا العالم من مختلف جوانبه، فقد توزّع الثلاثي الأدوار بِما لم يلغِ التداخل هنا وهناك: إلياس وفيكتور تسلّما ملف البحث عن المادة الموسيقية والبحث فيها وتحليلها ونقدها وتأريخها، فيما انصرف سليم إلى الشق الموسيقي الأكاديمي النظري (الغربي والشرقي)، ومن ثمّ التطبيقي، وتحديداً قيادة الأوركسترا والتعليم.
مناسبة هذا الكلام تزامن حدثين متقاطعين على درجة من الأهميّة: من جهة أصدر قائد الأوركسترا سليم سحّاب أسطوانة بعنوان «موشّحات» (جمعيّة «عِرَب») التي نتناولها في هذه المقالة، ومن جهة أخرى أصدر شقيقه الأكبر إلياس كتاباً بعنوان «الموسيقى العربية في القرن العشرين» (دار الفارابي) سنتناوله في الأيّام المقبلة.
سليم سحّاب، اسمٌ يعرفه جيداً جمهور الطرب الأصيل في لبنان... لكنّ ابتعاده إلى مصر جعله مغموراً في أوساط جيل الحرب. ولد سحّاب عام 1941، ودرس الموسيقى فحاز بكالوريوس قيادة كورال أكاديمي من معهد «غنيسين» (موسكو، 1971)، ثمّ ماجيستير قيادة أوركسترا سيمفونية وأوبرا من «كونسرفتوار تشايكوفسكي» (موسكو، 1976). أسّس فرقاً وجوقات عدة أبرزها «فرقة بيروت للموسيقى العربية» عام 1980 التي قادها حتى عام 1997.
إلى جانب نشاطه كقائد مجموعات موسيقية، مارس سليم سحّاب تعليم مواد موسيقية في جامعات في لبنان ومصر. ثم انتقل إلى دار الأوبرا الجديدة في القاهرة، حيث أسّس عام 1989 «الفرقة القومية للموسيقى العربية» التي جالت تحت قيادته أقطار العالم.
تأتي أسطوانته الجديدة اليوم لتعيدنا إلى حفلاته البيروتية، في قاعة «أسمبلي هول» (الجامعة الأميركية ـــــ 1986 و1987 و1991)، وإلى فنّ الموشّح. أما المحتوى، فهو عبارة عن باقة موشّحات من القرنين الماضيَين لأبرز مبدعي هذه الحقبة، ومن بينها أعمالٌ مجهولة المصدر (لحناً و/أو نصاً)، تؤديها «فرقة بيروت للموسيقى العربية» بقيادة سحّاب.
في مقاربته الموسيقيّة لهذه الأعمال، يحترم المايسترو اللبناني شكلها الأصلي لناحية اللحن والإيقاع، ويشرف على تنفيذها بدقة، موكلاً مهمة أداء الجمل الموسيقية ـــــ بما تمليه عليه ذائقته ورؤيته وحرصه ـــــ لهذه الآلة أو تلك المجموعة. هكذا يوزّع بمعنى الإعداد، مضيفاً بعض الكتابات الهارمونية المناسِبة والفواصل القصيرة والتلاوين (القانون المغرِّد في «لاهٍ تياه» على سبيل المثال). وكذلك يفعل في الشق الغنائي، فيقسّم الكورس إلى نساء ورجال للأداء مداورةً أو للالتقاء في غناءٍ جَماعي، ما يعطي الجو الصوتي العام ثلاث نكهات. أما الارتجال في هذا التسجيل، فيقتصر على الناي مطلع موشّح «يا بعيد الدار» (شعر العباس بن الأحنف/ لحن زكريا أحمد)، وعلى تقسيم للقانون، يليه تمهيد لوصلةٍ من موشَّحَيْن «لاهٍ تياه» (شعر ولحن فؤاد عبد المجيد المستكاوي) و«عاطني بكر الدنان» (شعر ولحن كمال الخلعي).
بالإضافة إلى هذه الأعمال، حَوَت الأسطوانة من تراث الشيخ سيّد درويش «مُنيَتي عَزّ اصطباري» (شعر قديم)، «كلما رُمْتُ ارتشافاً» (شعر قديم)، ومن روائع فؤاد عبد المجيد المستكاوي شعراً ولحناً «يا ذا الجمال البديع» و«فُتِنَ الذي»، وغيرهما من العناوين من ألحان داوود حسني، محمود صبح، فتحي زغندة، محمد عثمان،...
في الختام ملاحظتان. هناك تفاوت طفيف في مستوى التسجيل كان بالإمكان تسويَته حتى لو أنّ المادة الموسيقية مختارة من حفلات عدة يصل الفارق الزمني بينها إلى خمس سنوات. وهذا يطرح مسألة نقاوة الصوت، نسبة إلى تطوّر تقنيات التسجيل، وهي ليست مشكلة في عمل تتخطّى قيمته الفنية/ المعنوية أي اعتبار تقني. ومن جهة ثانية، ثمة مَن يعتقد أن لا حاجة إلى القائد في الفرق الشرقية. لكن يجب الأخذ في الاعتبار أن أكثر ما قد يطرح مسألة الحاجة إلى قائد لمجموعة موسيقية ما، هو وجود الكورس بدل المطرب المنفرد. في الموسيقى الكلاسيكية الغربية مثلاً، لا حاجة قصوى إلى القائد في أوركسترا الحجرة عموماً، وعادةً يتولّى أحد العازفين هذه المهمة ليؤمن بدايات ودخلات صحيحة. لكن متى تطلّب العمل جوقةً، حضرَ القائد. وأحياناً، عندما تكون الأوركسترا كبيرة وكذلك الجوقة، يتولّى قائدٌ كل مجموعة، علماً بأنّه يستطيع قائد واحد أن يقود أعمالاً تتطلب أكثر من أوركسترا (اثنتان أو حتى أكثر). لكن قد يلجأ أصحاب وجهة النظر الأخرى إلى مسألة الكتابة الأفقية للموسيقى الشرقية الأصيلة لدحض هذه الحجة! والخلاصة: إذا كان من المؤكد أن حضور القائد أفضل من غيابه، بغض النظر عن مدى إيجابية ذلك ومدى أهميته، فلِمَ الاستغناء عنه؟