strong>بشير صفيرأحيا ثلاثة أعضاءٍ من «مناجاة» المصرية أخيراً حفلتين في بيروت بمبادرة من كندة الحسن ومؤسسة «إيقاع». الفرقة التي حضرت مُختَصرةً إلى لبنان (ناي، رق وعود)، تتخذ من الموسيقى العربية الأصيلة عنواناً فنياً عريضاً يطال الغناء الدنيوي والإنشاد الديني على مستوى الكلمة، ويلجأ إلى التخت الشرقي لناحية التركيبة الموسيقية. تأسست «مناجاة» (2003) على يدّ عازف الناي المصري محمد عنتر، وهو الموسيقي الأبرز في الفرقة، والمشرف عليها فنياً. وقد تزامنت حفلتا بيروت مع نزول ألبوم الفرقة إلى الأسواق، تحت عنوان «في عشق المقام العربي» («إيقاع» للإنتاج). في هذا العمل، ينفرد محمد عنتر بتقاسيم على سبعةٍ من المقامات الشرقية الأساسية، أو الأكثر استعمالاً في الموسيقى المشرقية (صَبا، دوكاه، راحة الأرواح، حجاز، نهاوند، رَسْت وسيكاه). إذا استثنيْنا النَفَس الشرقي الكلاسيكي الأصيل المشترك بين أداء الثلاثي المنبثق من «مناجاة» وألبوم «في عشق المقام العربي»، فلن نجد ما يجمع بينهما سوى ناي محمد عنتر. في الحفلة وصلات مبنيّة على مقامات شرقية، فيها المكتوب الرصين والفائق الدقة والمضبوط إيقاعياً، وفيها تقاسيم الناي والعود. في الألبوم لا شيء يقيِّد مسار المقطوعات سوى الالتزام بالمقام الذي تُبنى على سلّمه التقاسيم.
الألبوم فيه من الحميمية والتأمل ما يجعل من الوحدة فسحة حرية، وتعبيراً عمّا يختلج في أعماق العازف. وجُلّ ذلك أحزانٌ دفينة أو حنينٌ إلى ما لم يره سوى القلب، أو نشوةٌ بمعنيَيْها الإنساني والإلهي. من الناحية التقنية ـــــ على رغم الاختلاف الكبير أحياناً أو التشابه الطفيف أحياناً أخرى بين المقامات ـــــ نجح عنتر في الانتقال بإحساس مرهف بين التقاسيم. هكذا خلق جسوراً تعتمد على النغمة المُعلَّقَة التي تترك المجال مفتوحاً في نهاية مقطوعة، أو على اللجوء إلى استهلالِ أخرى بما يوحي أنه ليس سوى تغيير مقامي لجملة تابعة لما سبقها.
صحيح أنّ الناي هو أساس في التخت الشرقي، لكن قد لا يرى فيه بعضهم آلة قادرة على التغريد وحيدة خارج سربها (كالعود أو القانون)، تماماً كشبيهتها في الموسيقى الغربية، أي الفلوت التي لا نكاد نجد لها عملاً منفرداً (بخلاف البيانو أو الغيتار). هذا الإحساس الصائب يتبدّد بعد أوّل استماع إلى ألبوم «في عشق المقام العربي» رغم الملاحظات القليلة، مثل أن يخون النفَس العازف فيخرج عن المقام في نوتة أو اثنتين على الأكثر... أو التنفس في توقيت غير صائب، أي، قبل ختام الجمل العالية التي يراد من اكتمالها نشوة التعبير في التقسيم، علماً بأنّ هذا جميل وغير نافر، بل يضاعف التأثير (هذه هي وظيفة الصمت في الموسيقى أولاً وأخيراً)... إلا إذا حصل بين نوتتين متحابتين على حد تعبير موزار.