في معرضه المقام حالياً في فيينا، ينبش التشكيلي السعودي الموروثات الاجتماعية والممنوعات ليُظهر مشكلة المرأة في مجتمعاتنا
حسين السكاف
تحتضن العاصمة النمساوية هذه الأيام معرض «المرأة مشكلة» للسعودي أحمد فلمبان (1951). هذا العنوان الإشكالي المستفز، سرعان ما تتضح فكرته حالما يشرع المشاهد بالتجوال بين أروقة المعرض، ليجد أنّ الأعمال تطرح «مشكلة المرأة»! هكذا يلعب الفنّان مع زوار المعرض لعبةً تلمس الواقع. هي ليست مفارقة، أن تتبنّى رابطة المرأة العربية في فيينا معرضاً مماثلاً وما جاء فيه من أفكار. الحقيقة أنّ هذا التبني أو الاستضافة، هو اعتراف صريح من المرأة بالفكرة التي تقدمها أعمال فلمبان. اعتراف بصدقية الأفكار المطروحة التي تصيب كبد الحقيقة وتطرح معاناة كائن بشري كثيراً ما عانى التهميش والهيمنة والتسلط الذكوري. هكذا يصور لنا أحمد فلمبان فكرة معرضه الرئيسية.
تتشارك الأعمال المعروضة برابط الحجم (25 × 25 سنتم) تماماً كما هو ارتباطها بتكنيك التنفيذ: معاجين ومواد صمغية كثيفة طُلي بها سطح القماشة لتستقبل الألوان والشخوص معلنةً فكرة العمل. لوحات تظهر نساءً بلا ملامح. مجرد أغطية وعباءات منفّذة بحرفية كأنّها تخبئ عالماً مليئاً بالأسرار والتناقضات. أليست هذه صورة الواقع الذي تعيشه المرأة وقد أراد الفنان تقديمه لنا كفكرة يمكن تأملها؟ فكرة تعتمد التأثيرات النفسية بدلاً عن الفلسفة أو التأويل. وهنا، يؤدي اللون والتكوين دوراً مهماً في إظهار إيحاءات الحركة والحالة الآنية التي تعيشها الشخوص داخل طقوس العمل.
قد يجد المشاهد في ألوان أغطية النساء ـ العباءات ـ ألواناً غير مألوفة في الواقع. إذ إنّ اللون هنا هو الرمز للحالة التي يطرحها الفنان. ويبدو أنّ إضافة تكوين العباءة في نهاية تنفيذ العمل قد أظهرت تقنية موفقة لترجمة الرمز. العباءة مجرد ستار لا يؤدي غرضه في أغلب الأحيان، والمرأة بالعباءة الحمراء تختلف بكل تأكيد عن تلك الملتحفة بالأزرق، أو القوية المتمردة في غطائها البني.
جاءت الأعمال بخلفيات موحشة تجسّد الضياع الذي بات يميز عالم المرأة في مجتمعها. غربة قاسية وغياب لكل ملمح من ملامح الحياة الذي من شأنه أن يرتقي بالروح البشرية، أو يداعبها على أقل تقدير. أحياناً يأخذ تكوين المرأة في لوحات فلمبان شكل الشجرة. نتلمس هذا حين نشاهد تكوينات نسائية أو عباءات، كأنّنا نشاهد منظر غابة أو حديقة غناء تارة، أو جرداء خاوية تارة أخرى. مجرد جذوع أشجار يابسة مقطعة الأغصان خالية من الحياة. بعض الأعمال أظهرت تكوينات نسائية بعباءات بانت مثلّثة الرأس، كأنّ الفنان يشير إلينا بأنّ الروح القابعة تحت الغطاء، هي روح راهب أو ناسك متعبّد. في مكانٍ آخر، تظهر النساء كصخور ناتئة من قلب الأرض أو في خضم بحر متلاطم الأمواج. حتى في حالة الفرح، وحين ترقص المرأة في لوحات فلمبان، تراها ملتحفةً ستارها وهي تدور مشرعة اليدين حيث السماء لتعبّر عن فرحها كأنّها فاقدة للنطق أو بتعبير أدق، مختنقة. وهذا بالضبط ما أراد الفنان ترجمته من خلال معرضه.
لم يغب الرجل عن سطوح الأعمال المعروضة وعمقها، رغم ظهوره الهامشي، لكنّ ظهوره جاء تعبيرياً تماماً كما هي التعبيرية والرمزية التي حظيت بها المرأة في لوحات المعرض. الرجل في لوحات فلمبان يظهر في حالة الإدبار، مانحاً ظهره للمشاهد ولنساء العمل وربما للحياة بأكملها.
الواضح أنّ أحمد فلمبان الذي تخرّج من أكاديمية الفنون في روما، يجد في الموروثات والمحاذير الاجتماعية وطقوس الممنوعات، حبلاً يلتف حول عنق الفكرة ويشلّ جسد الحرية التي يسبح في عالمها همّ الفنان وطموحه الإبداعي. والناظر إلى أعماله يجد رغبةً عارمة في تحرر الشكل من قيوده، الأغطية تعيق ظهور الإيحاءات، الراقص يظهر كالمفجوع، والحزين يتلاشى حزنه تحت تصوّرات السكون والاستقرار. ورغم كل هذا، يمكن المشاهد أن يتلمّس مسحة السخرية أو الغضب من تحول الكائنات البشرية إلى رموز خالية من الروح والملامح، أشكال شبه بشرية لا يميّزها سوى أغطية كاتمة.