الغجريّة العاشقة محطمة قلوب الرجال بين كارلوس ساورا وأنطونيو غاديس
دمشق ــــ خليل صويلح
تلك الأمسية كانت الفراشات الأندلسية تطير عالياً كما في حلم غرناطي على مرأى من عيني لوركا قبل إغماضتهما الأخيرة. هناك على خشبة مسرح «دار الأوبرا» في دمشق، كنّا على وشك أن نلتقط أنفاسنا أمام طيف أنطونيو غاديس. الكوريغراف الراحل كان أول من خبط قدميه على الخشبة ليطلق فلامنكو «كارمن» بصيغتها الجديدة. وإذا بالأوبرا الشهيرة التي اجتازت العصور وقطعت آلاف الأميال من مكان إلى آخر، تتحول بين يديه إلى عنفوان غجري وكبرياء جريحة وحكايات عشق وغيرة وخيانة ونشوة. هكذا، تحرّرت كارمن من إطارها الكلاسيكي الذي تعوّده جمهور الأوبرا من خلال العمل الذي يحمل توقيع الموسيقي الفرنسي جورج بيزيه (1838 ــــ 1875)، لتصير أيقونةً معاصرةً تكسر البرواز المذهّب وتجول في الأزقة بصحبة الغيتارات الإسبانيةالحكاية بدأت قبل ثلاثة عقود. ذات يوم، زار المخرج الإسباني كارلوس ساورا فرقة انطونيو غاديس التي كانت تتدرب على باليه «عرس الدم»، المستوحاة من مسرحية فدريكو غارسيا لوركا، فاقترح على الراقص المشهور ومدير الباليه الوطني الإسباني آنذاك، إنجاز فيلم انطلاقاً من العرض. تصور ساورا أن يقدّم الشريط على شكل حكاية داخل حكاية، وعرف الفيلم النجاح المذهل الذي نعرف. قادتهما التجربة إلى تعاون ثانٍ فكان فيلم «كارمن» الذي تجاوز كل التوقعات، وحصد جائزتين في «مهرجان كان» 1983.
منذ ذلك الوقت، لم تتوقف هذه الصيغة من أوبرا «كارمن» (1875) عن التجوال عبر العالم... وها هي تحط أخيراً في دمشق كإحدى المحطات الاستثنائية لاحتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية». مصمّم الرقص انطونيو هيدالغو المؤتمن على تراث غاديس بعد رحيله (2004)، استمرّ على المنوال نفسه. لم يغيّر حركةً واحدة في العرض، بل سعى بمهارة إلى اقتفاء خطوات معلّمه وحركاته على الخشبة حدّ التطابق. وكان الشاعر الكبير رافاييل آلبرتي قد أهدى أنطونيو غاديس قصيدةً مؤثرة في وصف حركته الساحرة على الخشبة: «إنّ الهواء يترجّل عند قدميك/ والقلب المتشظي يرتفع في حلقك./ أن تنحل./ أن ترتجف./ أن تنطوي./ أن تحطّم وتنتشي مثل خنجر،/ هكذا يتراءى لي المشهد».
ترتفع الستارة، فإذا بأعضاء الفرقة يقفون على الخشبة في تمرينات فردية كما لو كانوا في إحدى بروفاتهم الاعتياديّة: راقصة تشد جواربها، أخرى تتأكد من لياقتها... المنصة شبه خالية: بضعة كراسٍ خشبية وطاولات واطئة تتلاءم مع فضاء حانة شعبية، في العمق ألواح عاكسة تضيء حركة الراقصين من جهاتٍ عدة. مدير الفرقة ومدرب الرقص انطونيو هيدالغو يدلي بتعليماته لبعض العناصر في كيفية أداء الرقصات، ثم يأخذ الجميع أماكنهم على الكراسي يتفرجون على رقصات فردية بالتناوب، قبل أن يُفتتح العرض برقصة جماعيّة يقودها هيدالغو نفسه. فجأة تنسلّ من الحشد راقصة بفستان أحمر ناري. إنّها بلا شك كارمن! تتعالى الأيدي بالتصفيق على وقع خطواتها الصلبة وهي تخبط الأرض في رقصة جامحة ومجنونة. هكذا ستبدأ حكاية هذه الغجرية التي خلّدها الكاتب الفرنسي بروسبير ميريميه (1803 ــــ 1870) أواسط القرن التاسع عشر برواية تحمل العنوان نفسه (1847)... لكن على إيقاع الفلامنكو هذه المرة.
في كارمن» غاديس وساورا، ستحضر إحدى قصائد لوركا «أخضر حبك أخضر» بصوت أنريكه بانتوخا وأنغام انطونيو سوليرا. وإذا بغرناطة وإشبيلية تتجليان في كل حركة ولون وصوت. أما كارمن، فستخوض مغامراتها، وتتبع قلبها غير آبهة بعدد الطعنات التي تتركها في أحشاء عشاقها المخذولين.
الحركات الأربع في الأوبرا الأصلية ستتحول هنا إلى إيماءات حسية صارخة، وشهقات وأجساد عطشى للحب والمغامرة وجنون الرغبة. الغجرية التي وقعت في غرام العريف دون خوسيه لن تأبه لعلاقته بميكائيلا، لكنها سرعان ما تحس بالضجر منه لتوقع مصارع الثيران اسكاميلو في حبائلها، من دون أن يعلم بعلاقتها مع دون خوسيه. في حلبة مصارعة الثيران، تقع مشادة بين كارمن ودون خوسيه الذي هجر معسكره وتبعها. في حركة مباغتة، تخلع خاتمها وتقذف به لتعلن نهاية علاقتهما جرياً على عادتها في العشق والهجران. يستل دون خوسيه خنجره ويطعنها ثم يتكوّم فوق جثتها متغنياً بحبه لها. كأنّ كارمن لعنة أبدية في قلوب عشاقها وصورة للإغواء والشهوة والدم. براعة الراقصين لن تثنينا عن التوقف أمام سحر ستيلا آزارو التي أدّت دور كارمن، بجموحها ورشاقة جسدها في التعبير عن أدق تفاصيل الحركة على الخشبة طوال ساعة وعشرين دقيقة. أوبرا «كارمن» في نسختها الإسبانية، تجول في شوارع اليوم بأبطال هامشيين: عشاق ومهربون يرتدون سراويل الجينز، وأجساد يلفحها هواء الرغبات المعلنة. لعل هذا ما أراد انطونيو غاديس وكارلوس ساورا التعبير عنه. ذلك أنّ رقص الفلامنكو في المآل الأخير هو أصوات المقهورين وأشواقهم، مذ هرب الغجر إلى غرناطة التي كانت تخضع لسيطرة المسلمين. ويرجع بعضهم هذا الفن إلى أصول عربيّة، والتسمية إلى felah-mengus (أي الفلاح التائه). هناك في ساحات غرناطة تجمّع المنفيّون وأعدّوا اختراع الفلامنكو عن تعبيرات إغريقيّة ورومانيّة قديمة، للتعبير عن آلامهم. وإذا بهذه الرقصة التي تعتمد الارتجال في حركات القدم واليدين، تنتقل على يد الغجر من جنوب إسبانيا إلى المدن الأخرى. أما أوبرا «كارمن»، فهي جسر التنهّدات الممتد من غرناطة الأندلس إلى أصغر حانة في أزقة مدريد.