بيار أبي صعبعام آخر يمضي تاركاً لنا شريطاً من الصور المتدافعة التي يصعب أن تقول كلّ شيء، وتختصر كلّ شيء. إنّها محطات خاطفة من مسيرة صاخبة، بحلوها ومرّها، بلحظات النشوة والمتعة والدهشة والاكتشاف، ولحظات التمزّق والألم والحداد... التي جاءت الهزّة العظيمة في آخر أيّام العام في غزّة، لتعلو عليها وتختصرها جميعاً. لقد كانت سنة الغياب بامتياز: إذ فقدَ العالم العربي عدداً من أبرز رموزه الأدبيّة والشعريّة والفنيّة، وشهوداً على حقبة حافلة بالتحوّلات والغليان الثقافي والفكري: من محمود درويش الذي ودّعته فلسطين في لحظة انكسار وطني إلى يوسف شاهين عبقري السينما المصرية، وألبير قصيري «شبح السان جرمان»، أديب الكسل والاقتصاد المطلق، ومن الناشر والكاتب سهيل ادريس إلى المخرجة رندا الشهّال. ومن فؤاد التكرلي الذي رحل في منفاه إلى كامل شيّاع الذي اغتيل في وسط بغداد.
كانت أيضاً سنة المواجهات من أجل الحريّة، من السعوديّة أرض الإرهاصات التنويرية الخافتة، إلى دمشق حيث «مدّدت» إقامة ألبير كيلو ومحمود عيسى في سجن عدرا، فيما كان خروجهما وخروج رفاقهما ليعطي «دمشق عاصمة الثقافة» بريقها ومعناها، فعمّان حيث طورد الكتاب والشعراء باسم الأخلاق العامة (!)... مروراً ببيروت التي شهدت تراجعاً مقلقاً في المواجهة مع أجهزة الرقابة التي تنتمي إلى زمن آخر، وتختصر تخلّف البنى السياسيّة التي تقوم عليها المؤسسة الرسميّة.
كانت سنة الامتحانات الصعبة في شوارع بيروت، حيث لعب بعض المثقفين لعبة الحوربة والمتاريس، وعجز كثيرون منهم عن تجاوز مطبات الانقسام الأهلي، ليخرجوا من الموقع الضيّق لجماعاتهم ـــ على اختلافها ـــ فيقولوا كلاماً نقديّاً في الاتجاهين، ويرفعوا سقف السجال أي يأخذوه إلى منطقة أكثر عمقاً وصدقاً، فارضين منطقة لقاء وحوار بينهم، وخطاباً آخر، انطلاقاً من أرضيّة مشتركة تجمعهم في كلّ الأحوال.
كانت سنة الجرح الفلسطيني المفتوح، وسط فخاخ التحضير لاحتفالية «القدس» عاصمة الثقافة العربيّة ٢٠٠٩. فمن يشرف عليها؟ وكيف تقام تحت وصاية إسرائيل؟ وهل تتمكّن فلسفة البرمجة من الاتساع للثقافة الفلسطينية على تعددها، وتؤكّد على الهويّة الوطنيّة، وأولويّة التحرر الوطني، واستعادة الحقوق الشرعيّة للشعب الفلسطيني انطلاقاً من عاصمته الأبديّة؟ وما جديّة المبادرات الأهليّة العربيّة لإقامة النشاطات باسم القدس ولها، إنما من خارج المدينة الرازحة تحت قبضة الاحتلال؟
وماذا نقول عن مصر، حيث المؤسسات ماضية في الانهيار، والثقافة الرسمية في التآكل؟... وحيث جاء حريق المسرح القومي ليحمل أبعاداً رمزيّة صارخة... فيما وزير الثقافة الذي يحتل موقعه منذ دهر، مشغول بخوض معركة... «الأونيسكو». ماذا نقول عن الجزائر، حيث لم يعمّر الربيع المزعوم طويلاً، فإذا بالسلطة تصادر وتمنع وتطرد وتضيّق، وإذا بمعرض الكتاب يشهد منع مئات العناوين العربيّة والجزائريّة؟
لقد بلغت الأنظمة المتسلّطة الفاسدة ذروة طغيانها. الأنظمة التي تختبئ غالباً خلف ديماغوجيّة الخطاب المحافظ، وتتنازل لممثليه الأكثر أصوليّة كي تغطّي على استبدادها وفسادها وعمالتها للاستعمار الجديد ومصالحه (الوزيرة خالدة التومي التي أغضبتها محاضرة أدونيس النقديّة تجاه الفكر الديني في الجزائر... ألم تقم بزيارة إسرائيل؟)... وكي تعوّض تقاعسها عن مواجهة البؤس الاقتصادي والأخلاقي والاجتماعي والفكري والحضاري لمجتمعاتها... لكن رغم تواصل البطش والقمع والتخلّف المبرمج من الأعلى إذاً، هناك اتجاه حقيقي آخذ في التبلور مغرباً ومشرقاً، لاختراع الحريّة، وإعلان كل أشكال العصيان الإبداعي الممكنة.
لنكن متفائلين إذاً: 2008 أيضاً سنة الولادات والاكتشافات التي دفعت إلى الواجهة جيلاً جديداً من المبدعين العرب في مختلف الميادين... ورسّخت المبادرات الثقافيّة الشبابيّة والمستقلّة عن المؤسسة، من القاهرة إلى الخليج العربي. نعم لكن متفائلين بالمستقبل، رغم كلّ شيء، ولو في قلب المأساة. ما يجري اليوم هو عمليّة مخاض طويل، والحريّة العربيّة ممكنة اليوم أكثر من أي وقت سابق.