عشرة أيام لا تكفي لترميم العطب الذي أصاب المشاهدة السينمائية في سوريا، من عبد اللطيف عبد الحميد إلى مجدي أحمد علي، مروراً بالإيراني مجيد مجيدي... من دون أن ننسى تاركوفكسي وسكورسيزي: حقنة موقتة ضد التصحّر!
دمشق ــــ خليل صويلح
ستفوت متابع عروض «مهرجان دمشق السينمائي» في دورته الـ 16 الذي يُختتم غداً أفلام مهمة، لن يتمكّن من حضورها، بسبب ازدحام التظاهرات الموازية لأفلام المسابقة الرسمية... كاستعادة أفلام أندريه تاركوفسكي وزانغ ييمو، ومارتن سكورسيزي. لكنّ عشرة أيام من السينما لن ترمّم العطب الذي أصاب واقع المشاهدة السينمائية في سوريا، بعدما أغلقت معظم الصالات أبوابها. هذه الفسحة إذاً، هي بمثابة حقنة موقتة ضد التصحّر. لعلها اللعنة التي أصابت المدينة التي تخيّلها خوسيه ساراماغو في روايته «العمى» وتحوّلت إلى فيلم بالاسم نفسه للبرازيلي فرناندو ميريليس. في الشريط الذي عُرض في البرنامج الرسمي تتفشّى عدوى العمى بين سكان مدينة، فتبادر الحكومة إلى وضع العميان في معزلٍ خاص، لنتعرف إلى مجتمع آخر يعيد إنتاج العنف بأقسى صوره. كأنّ عمى البصر أصاب البصيرة أيضاً. هكذا حين ينفد الطعام، يخرج العميان إلى المدينة ليكتشفوا أنّها مهجورة منذ زمن. هذا ما تكتشفه زوجة الطبيب التي دخلت المعزل برفقة زوجها مدعية العمى، فتقود مجموعة من العميان إلى بيتها ليكونوا أسرتها الجديدة، وحالما تستيقظ أرواحهم على الحب والألفة، يستعيد الأعمى الأول بصره، وتنتعش آمال الآخرين باستعادة حيواتهم القديمة.
في الشريط التشيكي «قوارير مستعادة» لجاك سفيراك، يقرّر مدرّس عجوز ضجر التعليم أن يهجر مهنته ويغيّر مجرى حياته بالتواصل مع بشر آخرين، فيتنقّل بين مهن عدة، آخرها استعادة القوارير الفارغة من زبائن السوبر ماركت الذي يعمل فيه، ما يتيح له التعرّف إلى بشر من شرائح متباينة، وإنشاء علاقات عميقة معهم، ويتمكّن أخيراً من الانتصار على عزلته في معالجة سينمائية أخّاذة.
الألفة المفتقدة هي محور الشريط المصري «خلطة فوزية» لمجدي أحمد علي. تجول الكاميرا في أحد العشوائيّات المحيطة بالقاهرة، لتحط رحالها عند بشر أنهكتهم الحياة، ورغم بؤس العيش يسعون لاقتناص أي دفقة فرح، وهو ما تحاول فوزية (إلهام شاهين) تحقيقه، فهي حالما تتلمّس لحظة حنان من أي رجل، تتزوّجه، لكنها سرعان ما تكتشف خطأ خيارها. هكذا تخوض خمسة زواجات تنتهي بحودة (فتحي عبد الوهاب) الذي سيجد نفسه في عالم غرائبي تفرضه حياة العشوائيات التي هي بلا سقف، إذ يجتمع أزواج فوزية السابقون كل خميس لزيارة أولادهم، ويتناولون الطعام على مائدة واحدة. فيلم تهكمي وساحر لولا الإطالة في بعض تفاصيله، والمسحة الميلودرامية التي صبغت الجزء الأخير منه.
في «أيام الضجر»، يواصل المخرج السوري عبد اللطيف عبد الحميد أسلوبيته في استرجاع ذكريات طفولة بعيدة، سبق أن عالج جوانب منها في أفلامه، وخصوصاً «ليالي ابن آوى». وهنا يربط جغرافيات متباعدة في شريط واحد، فتدور أحداث الفيلم بين الجولان والساحل السوري، على خلفية الاحتفالات بالوحدة السورية المصرية 1958، وإذا بشعارات تلك المرحلة تشبه ما يحصل اليوم بالتفاصيل ذاتها، كأنّ عجلة الزمن لم تتحرك، في ضجر طويل يقود أربعة أطفال لأب عسكري إلى مغادرة مرتع طفولتهم إلى قرية ساحلية، لكن الضجر سيلازم يومياتهم ويطارد أحلامهم التي اغتالتها الهزائم والانكسارات. لعل الدبابة المعطّلة التي تجثم قرب البيت إشارة لافتة إلى وقائع تلك المرحلة المستمرة إلى اليوم، بصرف النظر عن الغليان (الصوتي؟) الذي كان يدور في شوارع المنطقة العربية. وهذا ما نجده في الشريط الفلسطيني «عيد ميلاد ليلى» لرشيد مشهراوي، وإن جاء الاحتجاج من موقع مغاير، ففيما تسير حياة سائق تاكسي (محمد بكري)، بمشية عرجاء، وسط فوضى الحياة في مدينة رام الله المحاصرة، تكرر الإذاعات العربية بياناتها في الشجب والتنديد بالعدوان الإسرائيلي الذي يجثم منذ عقود في فلسطين بالأسطوانة ذاتها.
سائق التاكسي هو أيضاً بطل «أغنية عصفور الدوري» للإيراني مجيد مجيدي، حيث ينخرط في حياة العاصمة، وسط عالم صاخب، بعدما طُرد من عمله في مزرعة لتربية طيور النعام، لكن حادثة يتعرض لها، تعيده إلى قريته، ليتأمل حياته البسيطة من جديد، بالتأكيد على قيم كثيراً ما رصدها صاحب «أطفال الجنة» في أفلامه كالقناعة والتسامح والغفران.