حكواتي HIP HOP قدّام باب السفارةبيار أبي صعب
لا يحتاج المشاهد إلى وقت طويل كي يدخل اللعبة. منذ اللحظات الأولى نحن أمام باب السفارة. فضاء سينوغرافي بسيط يظهر عري المسرح، حواجز من البلاستيك وسواتر وبراميل وصناديق قمامة، تسبح في إضاءة معدنيّة (جوديث غرين وود/ محمد فرحات). وعلى امتداد جدار العمق يسلّط البروجكتور صورة هائلة. لقطة منحرفة، من أسفل إلى أعلى، تمثّل أطياف عمارات في ليلة مقمرة من ليالي بيروت. في الظلمة صف طويل من المواطنين، ينتظرون دورهم لتقديم طلب «الفيزا». لقد دخل الممثلون بطريقة مؤسلبة من يمين الخشبة. موكب طويل متعب، يتقدم ببطء على إيقاع روتيني. كوريغرافيا جنائزيّة، أجساد في وضعيّات تعبيريّة تعيد النظر بالتوازن والجاذبيّة الأرضيّة. كأننا أمام دمى ميكانيكيّة. الأيدي اليمنى تقترب من الوجوه ثم تبتعد، في كل منها رقم متسلسل يحدّد دور المنتظرين، أحقيّة واحدهم في التقدّم خطوة إضافية صغيرة في اتجاه «أرض الميعاد»... فيما مكبر الصوت يردد الأرقام العتيدة باللغات الثلاث: 61، 62، 63، إلخ. بعضهم هنا منذ أسابيع، وبعضهم منذ أشهر. معظمهم لا يصل دوره أبداً، فيعود في اليوم التالي، وهو غير متأكد من الدخول... وإذا قبل طلبُه، من الحصول على التأشيرة السحريّة التي ستدخله إلى الجنّة الموعودةالمشهد أليف جداً لكل مواطني العالم الثالث، للعرب تحديداً: كلما ضاقت الأوطان وتحوّلت إلى بؤر البؤس والتخلّف والقمع والحرمان والعنف التي نعرف، اتسع سراب العالم الغامض البعيد وتفاقم حلم الهجرة والسفر إلى برّ الأمان المفترض. نضال الأشقر اتخذت من هذا الواقع إطاراً لمسرحيّتها الجديدة «قدام باب السفارة الليل كان طويل» (النص بالاشتراك مع عيسى مخلوف، تقمّش خلال ارتجالات البلاتوه). الهروب بأي ثمن إذاً. صحيح أن لبنان لم يعرف حتى الساعة الأشكال التراجيدية التي يعيشها المغاربة وأهل القارة السمراء، من إبحار سريّ على سفن الموت التي قد لا تصل أبداً. لكن لبلد الأرز ـــ كالعادة! ـــ حكايته الخاصة. أبناء وبنات جيل اليأس، سيجدون أنفسهم محاصرين في هذه البقعة الضيقة «قدام باب السفارة»، لأن اشتباكات أمنية وقعت في بعض شوارع المدينة. هذا الليل الطويل إذاً، جمعت فيه نضال الأشقر شبانها وشاباتها (بعضهم محترف، ومعظمهم من طلبة معاهد الفنون)، ليقولوا ـــ كما في حفلات نهاية العام المدرسيّة ــــ تجربتهم وغربتهم ورفضهم لهذا الواقع البائس الذي يجبر حبيبين على السفر إلى قبرص إذا رغبا في الزواج خارج طقوس القبيلة!
يبدأ الغناء على حين غرّة. نخاله الكورس الإغريقي يمهّد للحدث التراجيدي. «نحنا المتروكين/ عَ بواب السفارات/ زهقت منّا السفارات/ يا عيني عَ السفارات...». ثم يخيّل إلينا أننا أُقحِمنا عنوة في استعراض غنائي راقص، من النوع الذي قد يحمل إلى المسرح اللبناني شيئاً من البهجة والحياة. لكن الاستعراض لا يذهب بعيداً. يتركنا بين يديّ «احتفاليّة» نعرفها جيّداً، وتتقنها نضال الأشقر جيّداً، هي ديفا العصر الذهبي للمسرح اللبناني، ووريثة تقنيات الفرجة وجمالياتها القائمة على «السرد» و«التغريب». إنّه مسرح «حكواتي» إذاً، تستعيده (تحييه) نضال الأشقر على طريقتها، حيث الحكاية تتفرّع إلى حكايات، والقالب الدرامي يبقى مشرّعاً على احتمالات كتابة لم تمضِ، هي الأخرى، إلى نهاياتها. في «مسرح المدينة» هذه الأيام، نحن على موعد مع الفرجة... أولاً وأخيراً!
الباحة أمام السفارة ستصبح فضاءً للسرد والتمثيل، للغناء والرقص، وسط مؤثرات بصريّة تسبغ على العمل بعداً طفولياً وحلمياً مريحاً. بعض الممثلين يعزف أيضاً، وبعضهم الآخر يغني منفرداً (تراث قديم، وألحان الأغنيات لخالد العبد الله)، والجميع يرقص ويغني في «الجوقة». هناك مغنيا راب (إدوار عبّاس، وناصر الدين الشربجي)، ومناخات حركيّة وملابس مستعارة من الـ HIP HOP. جوقة ممثلين، كل منهم يستحضر ذكرى ويتقمّصها. يختار حكاية، ويؤديها فيتبعه الآخرون، ويتشكّل المشهد... ثم يفضي إلى مشهد آخر وحكاية أخرى، وهكذا دواليك. مجموعة اسكتشات يربط بينها الاحتفال، خياراً دراميّاً. علماً أن الحوارات لا تخلو من التعليقات المباشرة (ما يذكّر من بعيد بمسرح الرحابنة): «بلدنا ضحيّة الجغرافيا (...) ما عم نقدر نتفق على ولا شي»، «بالدم بالروح/ بلدنا رح يروح/ بالدم بالروح/ لوين بدنا نروح؟»، «بلد الكبت والطوائف... ووجوه الزعماء»، «الطوائف خط أحمر، اللي بيقطعوا بيحترق» إلخ.
هناك أولاً مشاهد السفر: لوحات متتالية تأخذنا إلى أفريقيا ونيويورك وفنزويلا وأوستراليا والخليج... هناك المونولوغات والتداعيات التي تعكس هموم الشباب ومعاناتهم وتجربتهم اليوميّة، وغير ذلك من شكوى واحتجاج. ثم مشهد خالد وزينب يتكرر كاللّازمة بين اللوحات: هو متمسك بها وهي تريد أن تمضي: «الحب صعب في هذا البلد!». وهناك مشهد المبارزة حين ينقسم الجمع إلى فئتين متناحرتين على أثر مشادة سخيفة، ولعله من أجمل لحظات المسرحيّة، مشغول بنبض وقوّة وديناميّة وبلاغة إيقاعيّة وكوريغرافيّة (كوريغرافيا نديم بحسون)... ثم هناك الجزء الثاني من المسرحيّة: وهو الأقوى والأنضج والأنجح فنياً، يصلح نواة لعرض آخر مستقل: انطلاقاً من صور قديمة بالأبيض والأسود لهجرات سابقة تعرض على خلفيّة المسرح، وعلى أنغام أغنيات مثل «بابوري رايح رايح... بابوري جاي»، تتشكّل لوحات ومشاهد موازية وحوارات استعاديّة بين الممثلين، تحكي قصصاً متخيّلة طالعة من الصور، تتقمصها وتشخّصها، بأسلوب يعيد إلى الأذهان العصر الذهبي للمسرح السياسي في لبنان. «قدام باب السفارة فرصة لاكتشاف طاقات ومواهب مميّزة. إضافة إلى راوية الشاب وندى أبو فرحات، هناك نسرين حميدان وأسيل عيّاش، وهناك علي يونس وسليمان زيدان الذي يبدو وقد أفلت من مسرحيّة قديمة لزياد الرحباني، ونتوقّع له مسيرة حقيقية في عالم التمثيل... والقائمة تطول. ينبغي أيضاً أن نتوقف مليّاً عند الشغل البصري الذي قام به الثنائي عمر خوري وفادي باقي بين رسم وتحريك. تعبر على شاشة العمق، طوال العرض، سماوات وبحار وغيوم وأمواج. تعبر السلاحف البحريّة، وطائر الرخّ، وكائنات وعناصر «سمندليّة» أخرى (نسبة إلى مجلّة «السمندل» التي شارك عمر وفادي في إطلاقها)... لتواكب المشاهد وتعطيها بعداً ثالثاً.
ليست مسرحيّة استعراضيّة «قدام باب السفارة...»، هذا صحيح. لكن الاستعراض هو مادتها الأولى. وإذا كان الحكواتي يطل برأسه في بعض المشاهد المتقنة، فلا يسعنا أن نتحدث عن مسرح سياسي. إنّه تمرين شبابي بإشراف فنانة رائدة مؤتمنة على تاريخ ثقافي عريق، تحوّل إلى احتفال مشهدي راهن، يشدّك بعفويّته وجمالياته، ويحرّضك بوجعه السياسي والإنساني. نعم المسرح أيضاً مصنع المواطنين! تبوح نضال بأنها شعرت خلال الإعداد، بأنّها ابنة الثمانية عشرة التي أخرجت عملها الأوّل «المفتّش». ولعل بين ممثليها وممثلاتها الجدد، من سيلتقط العدوى ويواصل المغامرة، فيأخذ المسرح اللبناني إلى أقاليم جديدة...

حتى 30 ك1 (ديسمبر) المقبل ـ مسرح «المدينة» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/753010