في روايته الجديدة «زهور وسارة وناريمان» (دار الآداب)، يكتب خليل صويلح عن مثقف يساري يعيش تناقضاته معلقاً بين ثلاث نساء، وينتهي به المطاف في مسقط رأسه في الصحراء متسائلاً: هل هي منفى أم ملاذ؟
نوال العلي
تحدّث عالم الأنثربولوجيا فيليب دوبويك عن اقتصار وظيفة البيت في المدن العشوائية على كونه مأوى يلجأ الناس إليه، من دون تكوين ارتباط فعلي حميم بالمكان. هذا الطرح استثمره الروائي خليل صويلح، في عمله الجديد «زهور وسارة وناريمان» (دار الآداب)، متناولاً المرأة كمكان عشوائي منظور إليه كمأوى من الرجل. وهو يصوّر أيضاً استخدام المرأة لجسدها كملجأ تؤوي إليه منفِيةً عنه كمكان حقيقي وأوّل وبديهي ووحشيّ.
بطل الرواية يمتاز بـ«نذالة ذكورية» فاقعة. إنه خليل الذي يعيش انتصاباً عاطفياً وجنسيّاً محموماً، يغذّي لديه هاجس تصوير فيلم سينمائي عن ثلاث نساء، كل واحدة منهن تتقاطع مع جسدها أو لا تتقاطع معه على طريقتها، أو كما يشاء لها عالمها الصغير والضيق. فالرواية تستند في بنائها إلى علاقات رجل مع نساء... كلّ واحدة منهن نقيض الأخرى. وإن كان تعلّق خليل بجارته زهور، المرأة الريفية زوجة المحارب القديم ذو العضو الذكري المعطوب، تبدو في ظاهرها جنسية فقط... إلاّ أنه يبرر ارتباطه بأسباب تتعلق بجحيمه وعطالته وضجره.
أليس غريباً أن يجد رجل مثقف ملاذاً في جسد غفل، لامرأة ساذجة، أكثر مما سيجده مع حبيبة تنتمي إلى الوسط نفسه؟ إن خليل يجسّد شخصية المثقف ذي التاريخ اليساري حقاً، إلاّ أنه يعيش تناقضات المثقف الذكر الذي يحتفظ بأكثر من علاقة، ويكذب ويلفّق لتجميل وجهه الرومانسي أمام محظياته.
هذه العلاقة بين مخرج سينمائي عاطل عن العمل وزهور المكتنزة الغافلة عن أسباب أنوثتها، هي مساحة يستخدمها المخرج لتأليف سيناريو الفيلم المنشود، فيصوّر زهور وهي تتحدث عن نفسها، ثم وهي ترقص بسذاجة، لتلعب في فيلمه دور الجسد الأنثوي الجاهل بممارسة الحب وبالرقص، وحركة الرغبة، وهو الجسد المطواع نفسه الذي سيثقفه خليل ويلقّنه لغة الجنس والاستجابة له. وزهور هذه هي الصورة النقيض للفنّانة المسرحية سارة التي يصوّرها خليل صويلح، صاحب «ورّاق الحب» و«دع عنك لومي»، بأنّها ملاذ أخير للمخرج، فالسيناريو لا يكتمل من دون وجودها، وهي التي ستؤدي رقصة تعبيرية على موسيقى شرقية للفيلم.
أما سارة، فتظهر في حياة خليل بعد أن يشاهد لها عرضاً ويجد في ملامحها ضالّته، ألا تشبه المرأة التي تطارده في أحلامه عابرة في قطار إلى صحراء؟ وبحجة الحلم، يتقرب المخرج من سارة التي تزعم أنّها تحتاج إليه «على صعيد الأوهام على الأقل». ويبدو أن الحاجة إلى الوهم متبادلة بين الشخصيات كلّها. فليس ثمة شيء يتحقّق على أرض الواقع: لا الفيلم يُنَفَّذ، ولا يتمكن خليل من تجميع فسيفساء امرأة الحلم، وكذلك العلاقات كلها تنتهي بالقطيعة. إذ تسافر سارة بينما يترك خليل الغرفة المستأجرة، هاجراً زهور، ليعيش في منطقة عشوائية بعيدة عن دمشق.
أما ناريمان فهي راقصة الملهى الليلي؛ وتمثل «الجسد المبتذل» كحالة ثالثة مقابلة للمثقف والساذج. امرأة لا يُعرف لها أصل من فصل، مرّة مغربية ومرّة سورية، وتزعم أنّها مغربية. إنها جسد بلا هوية، مجرد مأوى تكسب ناريمان من خلاله عيشها لكنّها لا تقيم فيه بل تفتقده. وهذا الجسد يصبح أمام المخرج الشبق عادةً، جسداً فاقداً غوايته، لأنه متاح ومنتهك. وسيضاف تصوير رقصها الشرقي أيضاً للفيلم.
هذه هي محاور الرواية الثلاثة التي تفضي إلى عشوائية الجسد المؤنث بوصفه مدينةً، وعشوائية المدينة بوصفها مكاناً مؤنثاً. أما المرأة التي راودت خليل في حلم ذاهبة إلى صحراء، فما هي إلا جسد محكوم هارب إلى مكان بعيد عن حياة الجحيم في العشوائيات، وهي في ذلك تشبه خليل الذي ذهب إلى مسقط رأسه في الصحراء زائراً متسائلاً: هل الصحراء منفى أم ملاذ؟