نجوان درويش الكتابة عن محمود درويش صعبة في هذه اللحظات التي تفيض بأكثر من غصة وأكثر من ذهول، حيث جثمان الشاعر عبر الأجواء إلى عمّان، والعمال يعدّون له «قبراً موقتاً» على إحدى تلال رام الله. نحاول ألا نصدق أو أن ننظر إلى المشهد بعينَي الشاعر وبسخريته، هو الذي قد يكون من أكثر الشعراء قلقاً على «صورة موتهم» إن جاز التعبير. ففي شعره ونثره نقع على تصوراته الساخرة لصورة موته. حتى إنه استبق الهمسات الماكرة في جنازته: «كان أنفه طويلاً ولسانه أيضاً»، يتخيّل أحد مشيعيه يقول لآخر في «ذاكرة للنسيان». ويعمّق هذه السخرية المريرة من وراء قناع «يوسف» شاكياً للأب المُحابي في «ورد أقل»: «يحبّونني أن أموت لكي يمدحوني». وفي المجموعة نفسها، يكتب: «عندما يذهب الشهداء إلى النوم، أصحو، وأحرسهم من هواة الرثاء». ويمكننا إيراد استشهادات كثيرة على حساسيته الشديدة تجاه «الفضوليين» و«هواة الرثاء» وحملة الأكاليل والندّابات (تلك الحساسية التي لا يضاهيها سوى حساسيته من النقد القاسي أو فكرة أنّه ليس محبوباً من الجميع!). ولعله بهذا ترك نوعاً من التحذير لكل مَن يخطر له أن يكتب شيئاً في «مناسبة» غيابه!
ترى، هل يغيّر رحيل الشاعر من نظرتنا النقدية نحو مشروعه؟ لا شك في أنّ درويش شاعر متعدد الطبقات مثل عمارة كبيرة تجدّدت وعاصرت فترات مختلفة، عمارة تُعجب بطبقات منها ولا تُعجب بأخرى. لكنّها ــــ رغم كل شيء ــــ مَعْلَم جامع في هذه اللحظة الحرجة التي أوصلوا إليها «القضية الفلسطينية». وما يعزّي (إن كان أي عزاء ممكناً) أن الشعراء لا يموتون، هم فقط يرحلون. ورحيل الشاعر بهذا المعنى ولادة جديدة و«موته» حياة طليقة لشعره. حياة متحرّرة من تاريخ الشخص وأي خلافات أثارتها السياسة... وبعد كل ذلك يا محمود، ألن نكون مؤدبين في الجنازة؟