في كتابه الصادر بالعربيّة عن «الساقي»، يتوغّل فتحي بن سلامة في القصص المؤسِّسة للفكر الإسلامي. ويخيّر القارئ بين خوض المغامرة، أو تجنّب النزول إلى قبو الحواديت الدينيّة
نوال العلي
حين أسّس فتحي بن سلامة مجلة «كراسات ما بين العلامات» مع نخبة من باحثين في العالمين الأوروبي والإسلامي (1990)، لم يكن يعلم خلال خوضه في قضايا اللاشعور الديني والسياسي، أنّه سيصطدم بالراهن الإسلامي الحديث، وبصراع الحضارات وتمترس كل منهما خلف منطقه. وتلك المغامرة الفكرية أظهرت الكثير من المفارقات التي أغوت الباحث في دراسة التكوين النفسي المعاصر. وها هو المحلل النفسي التونسي يخوض وحده مغامرةً أخرى مشابهة، في كتاب «الإسلام والتحليل والنفسي» («دار الساقي» بالتعاون مع «رابطة العقلانيين العرب» ـــــ تعريب رجاء بن سلامة وتقديمه)، حيث يقدّم خطاباً تحليلياً يجادل من خلاله الأصول والقصص المؤسِّسة للفكر الإسلامي.
وفي سعيه لتأسيس فكر يُجلي الفرق بين إسلام منتهٍ وإسلام لا منتهٍ، بين إسلام جماعي وإسلام فردي، يفتتح بن سلامة كتابه بالحديث عن «همّ الأصل». لقد كانت بدايته مستفِزةً حقاً، من حيث ربطها التاريخي بالسياسي بالنفسي، ووضعها القارئ أمام خيارين: إما أن يخوض المغامرة مع صاحبها وإما أن ينأى بنفسه عن النزول إلى القبو النفسي للحواديت الإسلامية.
ولا شك في أنّ «هم الأصل»، بمعنى انهيار العلاقات بين الحقيقة والكلام والذاتية في الإسلام، سيقود بن سلامة إلى الذهاب نحو كسر المقدّس الأصل والحديث عن فعل «الخرق». والخرق يكون للسائد وللمتأصل. ويأتي الكاتب هنا بالحبيب بورقيبة مثالاً ساطعاً على الخرق: بورقيبة الذي شرب في رمضان نخب الشعب أمام كاميرا التلفزيون، كان يقصد من هذا تمكين الخرق، وصولاً إلى أقصاه: أي الزمن الذي تضطرب فيه الأشياء.
إنّ خرق الأصل الذي يتحدث عنه بن سلامة، هو السبب في خلق حالة من شوق المرء لأن يكون الغير، من دون تحقّق المعرفة التي تنقل المرء إلى موقع الغير. أي رغبة في أن نكون الآخر عن جهل، رغبةً في اكتشاف الحريات، والتلذذ بها. إلاّ أن هذه الموجة المتعطشة للغير، قوبلت بما يناقضها: أي التطرف الإسلامي، من حيث أنّه الدافع في أن يكون المرء الأصل نفسه بلا زيادة أو نقصان.
كان الأصل شاغلاً لفرويد ولاكان. ألم يكتب الأول كتابه المرجعي «موسى والتوحيد»، متجاسراً على النصوص أو الفكر التأسيسي التوراتي ليتمكن من تفكيكه ويعيد قراءته وبناءه. كان رهان فرويد كله على حدود الحقيقة التاريخية، ودرجتها الموجودة في الدين. وهكذا يحاول بن سلامة أن يرمي رهانه، أملاً بتحويل مسار حقيقة الأصل إلى مناطق يعمل فيها مبضع الفكر، بعدما غدت هاجساً وشغفاً في خطاب التيارات الإسلامية المتطرفة، يصفه بن سلامة بـ«الشوق السياسي إلى الأصل».
يستكشف بن سلامة في سيرة النبي محمد الذي بدأت تهيئته للنبوة بأن يكون يتيماً ثم بقصة فتح صدره وانتزاع قلبه، وإحلال الحرف «حاشية لجسد الطفل». والقصد هو الحاجة إلى فعل «الفتح» لتقبّل نص الوحي القرآني، وهو «أم الكتاب» لأنه مكتوب سلفاً، فـ«الأصل ليس سوى عملية تهجّ لنص قديم استقبله النبي في بكارة ذاته، فالقراءة حمل بنص الآخر».
لقد كانت مهمة الوحي فتح الجسد لتقبّل الاختلاف القادم، و«الدخيل» هنا هو الكلام، أي إنّ الإنسان هنا بمعنى الكلمة يصبح غريباً عن بقية أبناء جنسه. وهنا يوضح بن سلامة: «لا توجد إنسيّة في الإسلام»: الإنسية بمعنى أنّ الإنسان يستمد ماهيته من إنسانيته ويتوافق معها، وهي مسألة مرتبطة بتفكير أوديبي يرى أن «الإنسان نفسه هو الجواب عن السؤال وهو المرجع في فك اللغز».
وينغمس صاحب «الخيال القلق» في اللغة والنصوص القديمة بهذه الروح، بعد أن يتعمد القطع المعرفي مع السبل التقليدية في تفسير تلك النصوص، الأمر الذي يتيح له اكتشاف اللغة الحقيقية التي تمثّل دعامة لـ«نظام الخطاب الإسلامي ومؤسسته»، وإظهارها. كأنّنا في هذا الكتاب المتجرّد، المستند إلى العلم، والبعيد عن أي خطاب استشراقي أو سوسيولجي سياسي ـــ كما تلفت مترجمته رجاء بن سلامة ـــ نقف أمام مقطع يجلس فيه المحلل النفسي مع أهم الشخصيات التي مرّت في التاريخ الديني، ليتحدث معها عن المكبوتات التي بنيت عليها منظومة كاملة من الفكر الإسلامي. فنجد «إقصاء الإسلام للأنوثة الأصلية» و«إشكالية العلاقة بالجسد والحقيقة والتخييل» و«الجسد المتعفن».
يحاول الكتاب أن يفصح عن مكنونات السرد التوحيدي ومكبوتاته، حواء موجودة وآدم أيضاً، سارة وإبراهيم وآمنة، النبي محمد والسيدة خديجة، شهرزاد وشهريار.
ولكن ما وجه التناظر بين شخصيات مقدسة وقصص ألف ليلة وليلة؟ «إن أهم وجوه هذا التناظر هو تمييز المرأة بين المتعة الأخرى ومتعة الآخر. فالمتعة الأخرى تعود إلى المستحيل، باعتباره هزيمة للمتعة التامة وللسيطرة عليها». ألم تكن خديجة أول مَن سألها النبي عن سر ما يحدث له؟ ألم تكن المرأة في الحالتين قادرة على إقامة علاقة بالمتعة الأخرى، فخلّصت النبي من الشك. ونص «ألف ليلة وليلة» ألم يبتكر مشكلة وحلها في وجود المرأة؟
هذه القصص التي تكمن قيمتها ـــ بحسب الباحث ـــ في ما تمتلكه من سطوة على تفكيك «الجنون النرجسي للرجل إزاء المتعة الأنثوية»، تحيل إلى تفكيك النص الديني ورصد ارتباطه بالنرجسية الذكورية.