تركت ريجينا صنيفر «القوات اللبنانيّة»، كتبت فعل ندامتها قبل عامين بالفرنسيّة. لكنّ كتابها «ألقيتُ السلاح» الذي صدر بالعربيّة عن «دار الفارابي»، يبدو خليطاً عشوائياً من الأفكار والمواقف التي لا تمثّل إعادة نظر جذريّة بالتجربة، ونقداً لخلفيتها الطائفيّة. من الحرب الأهلية إلى عدوان تموز تكثر الاختزالات... أين الكاتبة اليوم من «المجتمع المسيحي»؟
نوال العلي
ركبت ريجينا صنيفر البحر، تاركة لبنان في آب (أغسطس) 1986. هل كانت تهرب من هول ذكريات الحرب فقط، أم أنّها مقاتلة تحررت من طائفيتها فعلاً؟ ما كان هذا السؤال ليخطر على بال، لولا الفصل الأخير من كتاب صنيفر «ألقيت السلاح» (دار الفارابي)، وهو الفصل الذي حمل عنواناً لا يخفى من دلالة إذا عُرف مضمونه «... وبعد».
يبدأ الفصل الأخير بالحديث عن زيارة الكاتبة لبنان لقضاء صيف 2006. تصف الأجساد البيضاء وهي تلاقي الشمس ورائحة الأراجيل تعبق في الجو، و«فجأة، ومن دون سابق إنذار، يلقي حزب الله القبض على جنديين إسرائيليين... ولا يطول الأمر بإسرائيل حتى ترد بعنف».
حين يعلن الأمين العام لحزب، الله حسن نصر الله، حرباً مفتوحة، تجد صنيفر نفسها «فريسة للشكوك والمخاوف»، فتستعيد ما كابدته منذ 30 عاماً، كأنّها «تدخل فصلاً جديداً من التاريخ عينه». ماذا تقصد صنيفر بشكوكها؟ هل تقيم مقارنة بين الحرب الطائفية التي خاضها لبنان والعدوان الإسرائيلي في 2006؟ أم تقصد أنّ الطائفية التي حركتها خلال الحرب استيقظت داخلها فجأة؟ ربما لا هذا ولا ذاك، فهي لا تؤمن بأي سبب للحرب. ما يجيده القادة هو «صناعة الخطب التي تستطيع التبرير لأي حرب...: نحن ندافع عن أنفسنا، الضعفاء في مواجهة الأقوياء... أمة ضد شعب».
ترفض الكاتبة اتخاذ موقف كلّما سئلت عن المسؤول عن حرق لبنان عام 2006، أليس في الرفض ذاته موقف، تقول: «لا لن أختار... تتحدثون عن انتصار عسكري، عن تاريخ سيحمل عاراً، شهداؤكم ضحايا، ما تجدون فيه قتالاً مشروعاً ليس إلا حرباً تهديمية تدميرية». هل تخلط صنيفر الحابل بالنابل سهواً أم عمداً؟ أم أنّ المسألة كما تصفها هي «إن مَن تطلقون عليه اسم «العدو» ليس وبكل بساطة إلا مرآة لكم».
لكن لنعد الآن إلى تلك المرأة التي ألقت السلاح بمعناه المجازي، فريجينا لم تكن مقاتلة على أرض المعركة، لم تمسك رشاشاً ولم تطلق رصاصة، لكنها حملت سلاحاً لا يقل خطورة: الكلمة. صدر «ألقيت السلاح» بالفرنسية قبل عامين، وفيه تشهد صنيفر على قناعاتها، وعلى التضليل الذي تعرّضت له بخصوص هويتها المسيحية إبان الحرب الأهلية اللبنانية، على يد مقولات وليد فارس ومَن نهج نهجه. وهذه المرأة المضلَّلة كانت مسؤولة عن تضليل بقية المقاتلين وتعبئتهم طائفياً، بالحديث عن الاضطهاد الذي تعرض له المسيحيون والمنتظر من جيرانهم الأعداء المسلمين، إن خرجوا من حربهم منتصرين.
حقاً، تمتلك صنيفر ما تحسد عليه من جرأة في المصارحة ومكاشفة النفس ومساءلتها، موثّقة ما عصف بها كشابة مارونية لبنانية، تشعر بأن هويتها الدينية مهددة «بالفتح الإسلامي للجبل».
في البداية، انضمت إلى «حزب الكتائب» حتى 1984، حين انتخب فؤاد أبو ناضر قائداً لـ«القوات اللبنانية». آنذاك، افتَتح جعجع مقرّاً خاصاً به، بعد اصطدامه بمبادئ الحزب وقد كان يميل، بحسب الكاتبة، «إلى نوع من الاشتراكية المسيحية الصوفية النزعة». أصبحت صنيفر مسؤولة إعلامية مقربة من سمير جعجع في «القوات اللبنانية»، حتى انتهت علاقتها بالحزب والحرب كلّها إثر استقالتها بعد انقلاب المعسكر المسيحي على نفسه، وتنكيل رجال جعجع بأنصار إيلي حبيقة، وأصبح رفاقها فجأة أعداءً في نظر «القوات»، فاعتقلوا وعُذبوا في السجون.
تلك الفترة، أدت صنيفر دوراً في حياة أولئك السجناء، وكانت الوحيدة التي تزورهم، وقابلت جعجع سعياً إلى إنقاذهم. لكنّها رأت ذلك اليوم في عينيه «السلطة الوقحة التي تقتات من نفسها»، ما كان يتناقض مع الصورة التي ظهر عليها أول الحرب كـ«عسكري متنسك وفيلسوف».
تكتب صنيفر هذه الشهادة وتهديها إلى ولدها، في محاولة لتجنيبه وأبناء جيله حروباً مقبلة. لكنّها لم تتحدث عن قناعاتها الجديدة المنفلتة من قيد الدين والطائفة، ولم تدافع عنها. اكتفت بتوضيح أسباب خروجها عن الجماعة، لتكون ذلك الفرد الحرّ الذي باتت تؤمن به. كذلك لم تضحد أياً من الأفكار التي غررت بها، وهي شابة مندفعة متحمسة لمارونيتها. حتّى إنها تظهر كمن يقول: لقد «ألقيت السلاح» لأنّ الحرب التي بدأناها تغيّر مسارها، وبدأت حرب الأخوة بين المسيحيين، وبات بعضهم في رأي بعضهم الآخر «الأعداء الجدد الذين يفوقون خطراً أعداء الماضي من فلسطينيين، وسوريين، ولبنانيين مسلمين».
في الحقيقة إنّ الأسئلة التي تطرحها صنيفر في سياق الدعوة إلى إعادة النظر بالأفكار الجاهزة، هي أسئلة طائفية في أساسها أيضاً: «هل لا يزال الأمر يتعلق بالمقاومة المسيحية؟ أتلك هي الطريقة الفضلى للدفاع عن الشعب المسيحي؟».
وفي فصل «قذفنا بهم إلى البحر»، تتحدّث صنيفر أيضاً عما فعله أنصار جعجع برجال حبيقة «قتلوهم وربطوا أجسادهم بالحجارة والصخور وأغرقوهم في البحر، إذ إنّ إبقاءهم في السجن بات أمراً محرجاً».
وإن كانت مؤلفة «الحروب المارونية» قد امتنعت عن كتابة أيامها في الحرب 20 عاماً، فذلك لأنّ من بين هؤلاء الضحايا «لبنان» الشاب الذي تسكن والدته في بيت مجاور لريجينا: «كانت تنتظر عودته... 17عاماً... تحافظ على ثيابه مطوية بعناية»... من دون أن تعلم أن جثّته التي لم تظهر ذابت في باطن البحر مع رفاقه. الآن وقد ماتت «أم لبنان»، قررت صنيفر أن تقدم شهادتها، وأخيراً أن تعلن وفاته.