ضمن مشروع «هنا أقف»، يطرح الفنان السوري باسل السعدي مجموعة من الأسئلة عن علاقة المبدع بالفضاء العام وذاكرة المكان والتراث المعماري للمدينة، في ضوء تراكمات الزمن وبصماته
باسل السعدي
قبل عامين شاركت في ورشة عمل مع «الجامعة الهولندية للفنون». وكان شارع مدحت باشا في دمشق المكان الذي اختاره المنظّمون لجمع المادة التي قد تكون صوراً أو فيديو أو نصّاً... كان الموضوع الذي استند إليه عملي الفني هو «العمارة وتراكم الزمن».
عندما بدأنا التصوير، فوجئنا بطبقات الزمن المتراكمة بعضها فوق بعض. مثلاً تجد جداراً حجرياً من البازلت دهنه أصحابه باللون الأسود بهدف تزيينه! ما أتحدث عنه ليس منظراً عابراً، بل تفاصيل كثيرة تصنع في النهاية شكل المدينة. صدف أن طلب منّي رئيس تحرير مجلة متخصّصة في فن العمارة أن أكتب موضوعاً عن دمشق. ظننته أولاً يطلب بحثاً عن الحالة المعمارية، فقدمت إليه مشروعي الذي بدأته في الورشة، لكنّه أوضح لي أنه يريد أن أكتب عن العمارة الجميلة في المدينة. شرحت له ــــ رغم أنه من سكّان دمشق لا برلين ــــ أنه لا وجود لعمارة معاصرة إذا نحّينا جانباً الفنادق الأجنبية، ويجب أن نوضح هذا الأمر ونقول كيف نتمنى أن تكون مدينتنا... فكانت النتيجة أن صرف النظر عن التعاون بيننا.
الاهتمام بالعمارة هو الاهتمام بالفضاء العام المشترك. وما هو مشترك يجب الحفاظ عليه ضمن قوانين متفق عليها. مثلاً، يجب أن أسأل نفسي كم يحق لي أن ألوّن بنائي من الخارج بالأحمر، قبل العودة إلى القوانين المتفق عليها، وهي قوانين جمالية في النهاية، لأنني عندما أزين شكلاً في الفضاء العام، فهدفي أن يراه الآخرون. وهنا السؤال: هل يحقّ لي أن أُري الآخرين ما أريد من دون إذنهم؟ ومَن الذي يمتلك المشهد؟.
حتى الآن، تبدو المشكلة بسيطة. لكن ماذا لو رأى الناس مشهداً غريباً سببه الفوضى المتراكمة عبر الزمن. فوضى ليست مقصودة وهي كثيرة جداً في دمشق؟ لن نجد أحداً «نعاتبه» إلا تراكم طبقات الزمن وأخطاء التنظيم الإدارية!
عندما بدأت كتابة هذا المقال فكرت في أن يكون العنوان «جماليات المصادفة»، ثم استقررتُ على «جماليات الفوضى»... فالمصادفة مفهوم مرتبط بالطبيعة. كأن تراقب غيمة لدقائق باحثاً فيها عما يشبه شيئاً تعرفه كوجه إنسان... هنا نتماهى مع الطبيعة غير عابئين إذا خذلتنا. في النهاية، لن نعود خالي الوفاض. تبقى الطبيعة جميلة بغموضها وأبعد من أن يفسرها أي تأويل إنساني عابر. أما جماليات الفوضى، فليست تأويلاً لشيء سيبقى جميلاً حتى لو لم يفَسَّر. إنها محاولة لاستخدام عشوائية يد الإنسان والزمن في هدف فني مركَّب. كيف يمكن أن تصنع عملاً فنياً، وفي الوقت نفسه أن تسخر السخرية من الجمال المنمَّق، الجمال المكتمل. الجمال الذي يكذب فينفي وجود توأم الجمال الحقيقي الذي هو الموت. في الجمال الكاذب لا وجود للغبار مثلاً، لا وجود للذبول ولا للزمن.
أول من استخدم عناصر عشوائية مهملة في فنهم كان الدادائيون ثم التكعيبيون. نجد هذا في لوحات بيكاسو قبل الحرب العالمية الأولى، حيث استخدم أوراق الجرائد، مقاعد قش من الكراسي، ورق جدران قديماً... صنع فناً يحتفي بقدرة الفنان على توظيف الأشياء المادية ليقدم ما يتعلّق باليومي والمهمل والملموس. بعده، فنانون كثر استخدموا المواد المستعملة كالإسباني تابيس والأميركي جاكسون بولوك، والإنكليزي أنتوني كارو، والألماني جوزيف بويس...
وبالعودة إلى حارات دمشق القديمة أو (الحديثة) وفوضى الفضاء الغرائبي فيها، عندما أفكر في استخدام عناصر حية وحقيقية من المكان، أرى في التوظيف الفنّي لبعض ما أجده في شوارع دمشق، فكرةً مغريةً. هنا نجد المواد حاضرة بحسيّتها الحقيقية غير المنمّقة. نجد عوارض حديدية صدئة وزجاجاً مغبَّشاً بالكاد يُدخل الضوء وجدراناً من اللِبن صمدت عبر الزمن، فنعرف بسببها كم نكره الأسمنت المسلح.
فإذا كان أحد يعتقد أنه يملك المشهد فسيغرقني بفن وثقافة يقدمان عالماً مكتملاً لا يمسه الزمن، عالم يزدهر في الخيال... يحق لي أن أقول عبر أعمال فنية تستخدم الواقع وتحكي عنه إنني «أرى ما أريد».