حسين بن حمزةفي مجموعته الجديدة «الموت يأخذ مقاساتنا» (دار الساقي)، يرفع عباس بيضون غطاء السريّة عن جانب شديد الخصوصية في عمله الشعري. إنه يمنح القارئ فرصة أن يجول في الكواليس والفناءات الخلفية لقصيدته، وأن يتلمس العوالم والمكوّنات والخامات الأولية قبل أن تتحوّل إلى قصائد عليها أن تُخفي في طياتها كل تلك المكوّنات. في أكثر من قصيدة وأكثر من موضع، يبدي عباس بيضون ميلاً إلى تقاسم انهمامه بالشعر مع القارئ. لعل هذا التصرف يُظهر ثقة بممارسة الشعر أكثر مما يُظهر حيرة وادعاءً مجانياً، فالشاعر الذي كان يَعِدُ نفسه بلقب «مفكر» أو «فيلسوف»، والذي تأخر في الإعلان الرسمي عن قبوله بصفة «الشاعر»، تجنّب ـ منذ بداياته ـ أن يبدو مبتدئاً. النضج المبّكر أعطى الشاعر نبرة مكتهلة قبل أوانها. النزوع الفكري والفلسفي لم يتأخر عن الالتحاق بالنص الشعري والاندساس في تقنياته واستعاراته. كل هذه السمات تم تظهيرها في قصيدة تدير ظهرها للعاطفة المائعة والرومانسية المبتذلة والتفجع البلاغي. وهذا ما جعل نصوصاً كثيرة لعباس بيضون تحتفظ بمسافة واضحة عن المزاج العام للشعر العربي.
في «قصيدة عرجاء»، يدعو عباس بيضون القارئ إلى تذوق ما يمكن تسميته «فناً» شعرياً شخصياً: «ثلاث ليالٍ وأنا لا أفلح في كتابة القصيدة، إنها لا تسير. أضعُ كلمة انفجار فلا تنفع في تحريكها. أجدُها منزوعة القوة مع أني وضعتُ فيها كل عصارتي. صنعتها بمقاييس صحيحة، وبذلتُ فيها كل خبرتي ولا تعمل». ثم يكتشف السبب: «وضعتُ كثيراً من الشعر، كثيراً من الفؤاد في القصيدة فصارت عرجاء».
من النادر أن يشرح شاعر فنه الشعري بهذه الطريقة. ثمة لذة مضاعفة في كتابة كهذه تسعى ـ في آن واحد ـ إلى إنجاز قصيدة وإلى وضع «وصفة» كتابتها في داخلها. بحسب صاحب «خلاء هذا القدح»، الشعر يفسد إذا وُضع فيه كثير من الشعر. ألا تصلح هذه العبارة عنواناً لتجربة عباس بيضون برمّتها؟.
ليس ضرورياً أن تكون القصيدة مصحوبة بمسوداتها وموادها الأولية. ولكن صاحب «نقد الألم» يجعل حضور هذه المسودات والمواد جزءاً حقيقياً وفعالاً في عملية الكتابة. الصقل وتنعيم السطوح لا يشغلان بال الشاعر. جملة عباس بيضون نفسها تشتغل ضد هذا المنطق. إنها جملة مكتوية بعكس التراتبية النحوية والمعجمية للجملة العربية. جملة منجزة بنثر حقيقي وملموس يقوم على لغة مسننة ودقيقة لا نجد فيها غناءً «ممحوناً» ولا رطانات أسلوبية مسبّقة الصنع. ولهذا، فإن اختياره عنواناً جافاً ومحايداً كـ«الوقت بجرعات كبيرة» لمجموعته الأولى، كان بمثابة إعلان شخصي مبكِّر عن ضجرٍ من شعريات رائجة تظن أن الشعر يتحقق، فقط، بـ«شعرنة» اللغة. أما القصائد التي تضمنتها تلك المجموعة، فكانت بياناً كاملاً عن ممارسة شعرية تروِّج لقصيدة مكتوبة بالنثر المحض وحده.
ما نجده في مجموعة «الموت يأخذ مقاساتنا» هو خلاصات ومآلات كل الابتكارات والاقتراحات التي تم تجريبها في سيرته الشعرية الطويلة. لقد انعطف الشاعر أكثر من مرة وشق مسالك أخرى، ولكنه احتفظ، طوال الوقت، بالنبرة المفارقة التي بدأ بها. ومجموعته الأخيرة لا تشذُّ عن ذلك. الفرق الوحيد ـ والحاسم بالطبع ـ أن قصائد هذه المجموعة تتحرك فوق خططٍ وحِيَلٍ وممارسات شعرية ثرية وخصبة، وهي عوامل، بين عوامل عديدة أخرى، أمّنت لتجربة عباس بيضون نوعاً من الإجماع.
تتضمن مجموعة «الموت يأخذ مقاساتنا» ممارسات وطروحات شعرية مختلفة. وفي هذا السياق، هناك ملاحظة تتعلق بكتابة قصيدة نثر على أسطر تامة وكاملة. لقد سبق للشاعر أن كتب على هذا المنوال، ولكن تكرار تبنّي هذا الشكل، لديه ولدى شعراء آخرين، لا بدّ أن يثير تساؤلات مستجدة في ظل إثارة البعض لمسألة أن الشكل الذي كُتبت به «قصيدة النثر» العربية لم يكن صائباً، وأن هناك ضرورة لتصحيح هذا «الخطأ الشائع» بالعودة إلى شكل هذه القصيدة في أصلها الفرنسي.
الملاحظة الثانية تتمثل في احتواء المجموعة على قصائد تؤرخ لحوادث (سقوط بغداد، التظاهرات التي أعقبت اغتيال الحريري، حرب تموز... )، إضافة إلى قصائد أخرى ترثي أشخاصاً. ولكن فكرة تقسيم القصائد بحسب موضوعاتها عملية لا جدوى منها. ففي شغل عباس بيضون، يمكن تحويل أي شيء إلى ذريعة لشعر آسر. لنقرأ رثاءه لوالدته: «وقفتُ عند رأسها في المستشفى وهي تسلمني حياتي قطعة قطعة. وحين أزلتُ عنها الزّحار والقيء وجدتُ الأرغفة التي امتنعتْ عن أكلها لأجلي، وكل شيء أحمر أطعمتني إياه بالقوة».