عيد بأية حال عدتَ يا عيد، لكن من دون الصخب الذي رافق البدايات، في أوج أوهام المرحلة الحريريّة. السنة انحسرت الفضاءات، وغابت الفرق الأجنبيّة، وتحتل التجارب الشبابيّة صدارة برنامج يمتدّ من مازن كرباج إلى... الدبكة البعلبكيّة
بشير صفير

تحتفل اليوم عشرات الدول بعيد الموسيقى. لم تكن هذه المناسبة موجودة قبل ثمانينيات القرن الماضي، وتحديداً قبل أن تختار وزارة الثقافة الفرنسية أول الصيف، يوم 21 حزيران (يونيو)، ليكون «اليوم العالمي للموسيقى». ويتزامن عيد الموسيقى مع عيد الأب... لكنّ المفارقة تكمن في الانعدام شبه التام للمؤلفات الموسيقيّة أو الأغنيات التي كرّمته. الأم هي غالباً مركز الاستقطاب الأوّل (والأخير). لا بد إذاً من توجيه تحية إلى الأب في عيده... لنقف مثلاً عند عمل زياد الرحباني الشهير: «إلى عاصي...»، وخصوصاً أنّنا نحتفي اليوم بالذكرى الثانية والعشرين لرحيل عاصي الرحباني.
احتفلت فرنسا لأوّل مرة بعيد الموسيقى عام 1982، بمبادرة من وزير الثقافة الاشتراكي جاك لانغ، واضعةً بشكل أو بآخر «قوانين» هذه المناسبة، ومن أهمّها مجانيّة الحفلات التي تحتضنها الفضاءات العامة والشوارع والساحات. بعد ذلك ارتأت دول عديدة أن تحذو حذو فرنسا، حتى وصل العيد إلى لبنان ابتداءً من عام 2001 في عزّ أوهام المرحلة الحريريّة، وفورة الـ«داون تاون»، وكان غسان سلامة ممسكاً بمقاليد وزارة الثقافة حينذاك.
عيد الموسيقى حديث العهد إذاً. أما الموسيقى فعمرها من عمر عناصرها الأساسية: الصوت والوقت. لا يمكن معرفة متى ولدت الموسيقى. إنها موجودة منذ الأزل، ويُقصد بولادتها تاريخ وعي الإنسان لوجودها في عالمه، وشروعه في تنظيم علاقة الصوت بالوقت ومن ثم وضع أبجدية فن الموسيقى.... من دون أن يتوصّل حتى اليوم إلى معرفة سبب جمال هذه النغمة أو ذاك التناغم. بمعنى آخر، إنَّ الإنسان، وإنْ توصّل إلى وصف مكونات الموسيقى ووضع قوانينها، لم يستطِع (وربما لن!) تفسير ما قاله باخ منذ أكثر من قرنين. إذ سُئل المهندس الموسيقي الأكبر جان ــــ سيباستيان باخ (1685 ـــــ 1750) عن سرّ تأليف الموسيقى الجميلة، فأجاب: «يجب وضع النوتة المناسبة في الوقت المناسب». إنّها الحقيقة البسيطة التي سال حبر الموسيقيين والأدباء والفلاسفة لتفسيرها. لكنّ الموسيقى ستبقى خارج متناول الكلمة، لأنها أعلى منها شأناً بشهادة أرباب الكلمة والنغمة معاً. شوبنهاور مثلاً وضعها في رأس الترتيب الهرمي للفنون، ونيتشه قال إنّ الحياة «غلطة» لولاها، والشاعر الفرنسي فيرلان وضع الحاجة إليها قبل أي شيء (De la musique avant toute chose). أما موزار فقال إن الكلمة يجب أن تكون «الفتاة المطيعة» للنغمة... وكتب زياد الرحباني «النغمة عن حق شو أحلى من الحكي» («عودك رنّان» من ألبوم فيروز «معرفتي فيك»).
إذاً بأية حال يعود العيد إلى بيروت، بعد قطيعة قسرية جعلتنا نشعر بأن سنوات ضوئيّة تفصلنا عن مطلع القرن. هذا العام، يختلف شكل الاحتفال ومضمونه مقارنة بالسنوات الماضية، رغم النقاط المشتركة. أبرز التغيّرات تكمن في انحسار الحفلات البيروتية في العاصمة، إذ ستغيب عن المشاركة أماكن اعتادت استقبال الفرق الموسيقية للمناسبة كشارع الحمرا، ودرج مار نقولا (درج الفن) في الجميزة، وشارع مونو الذي يعاني ركوداً ملفتاً منذ فترة. انحسار الاحتفال على مستوى العاصمة قابله انسحاب العيد إلى مناطق أخرى. هكذا، تحتفل جبيل وطرابلس وبعلبك بالمناسبة، بينما أقامت جامعة الروح القدس في الكسليك حفلاتها للمناسبة في 17 و18 الشهر الحالي.
وهذا العام، تغيب الفرق الأجنبية ــــ للمرّة الأولى ــــ عن برنامج الاحتفال، وخصوصاً تلك الفرنسية التي كانت تأتي سنوياً. كانت فرقاً مغمورة إجمالاً، رغم أن بعضها يتمتع بمستوى فنّي عالٍ لا تملكه فرقٌ أشهر منها. وغيابها اليوم يترك الساحة لفرق محلية تتنوع بين أسماء جديدة وأخرى معروفة، تشارك للمرة الأولى في العيد... وأخرى اعتدنا رؤيتها في السنوات السابقة. وكما في كل سنة، نحن على موعد مع مختلف الأنماط الكلاسيكية والحديثة التي تتوجّه إلى كلّ الأذواق والأعمار.
هكذا يصل عدد الفنانين والفرق الموسيقية إلى أكثر من أربعين اسماً، وتتنوع الحفلات لتشمل موسيقى الروك وفروعها، والجاز والموسيقى الكلاسيكية والأغنية الفرنسية، والراب والبوب الأجنبي والعربي، والموسيقى والأغنية الشرقية والتراثية، والموسيقى الإلكترونية... كما تحضر أيضاً الموسيقى التجريبية (مع مازن كرباج طبعاً!) من جهة، والدبكة اللبنانية (بعلبك طبعاً) لتكتمل الحلقة من الأشدّ طليعية إلى الأكثر تراثية.
لكن في المحصلة، تطغى الموسيقى الغربية الشبابية على الجو، وخصوصاً الراب والروك. وحصة الأسد من الحفلات ستكون للعاصمة التي تستقبل الجماهير في الحمامات الرومانية، وحديقة سمير قصير، والكنيسة الإنجيلية مقابل السرايا الكبيرة... إضافة إلى فرق ستجول أرجاء شارع المعرض، وساحة النجمة، والشوارع المتفرعة منها. أما حفلات وسط بيروت، فتتولّى تنظيمها «شركة سوليدير»... في انتظار أن يأتي يوم تلعب المؤسسات العامة دورها الطبيعي، وتستفيق بلديّة بيروت من عميق سباتها...
على أي حال، دعنا من السياسة، اليوم فقط... و«اعطيني خمس دقايق بس، إتسمَّع عالموسيقى».