خالد صاغيّةخصّصت مجلّة «لونوفل أوبسرفاتور» موضوع غلافها الأسبوع الفائت لـ«ستين فكرة من أجل استهلاك ذكيّ»، أو كيف يمكن العيش بكلفة منخفضة، بعد اشتعال أسعار النفط والغلاء الذي يجتاح العالم. لقد بات الغلاء إذاً، وانخفاض القدرة الشرائيّة لدى عامّة المواطنين، معطى ينبغي التعايش معه والتحايل عليه. ستّون فكرة قد تنقلب غداً إلى ستّمئة. فمخيّلة المحتكرين وأصحاب الرساميل الضخمة لا تكفّ عن العمل من أجل إفقار الفقراء. أمّا هؤلاء الأخيرون، فمخيّلتهم يجب ألاّ تنصبّ على استرداد حقوقهم، أو منع المسّ بها، بل على مجاراة الواقع الجديد والتكيّف معه.
«ستّون فكرة من أجل استهلاك ذكي». على الذين لا يستطيعون اعتماد أفكار كهذه ألا يلوموا إلا أنفسهم، فالخطأ خطأهم ما داموا هم الذين يستهلكون بطريقة غبيّة. أمّا أصحاب السلطة والشركات الكبرى في بلدان كفرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة الأميركية، فيرسلون جنود بلدانهم للمشاركة في غزوات تسهم في رفع أسعار النفط، ثمّ يطلبون من عائلات هؤلاء الجنود التكيّف مع الغلاء المستجدّ، طبعاً إلى جانب الصلاة من أجل أولادهم، أو من أجل راحة نفس من قضى منهم في سبيل مجد الإمبراطوريّة.
أمّا في بلدان كبلادنا، فالغلاء فرصة بالنسبة إلى أصحاب السلطة. إنّه معطى خارجي، يُستغَلّ داخليّاً ليصبح أضعافاً مضاعفة، ولا خيار أمام المواطن إلا خفض مستوى معيشته أو الهجرة. السياسات الحكومية، سلوك التجّار والمضاربين، محاولة تقسيم الأعباء بين العمّال وأرباب العمل، هي كلّها عناوين خارج النقاش. «غلي الدولار»... «ارتفع سعر اليورو»... «أسعار النفط»... تقال هذه العبارات وكأنّها تشرح كلّ شيء، وكأنّ من عليه أن يتحمّل نتائجها الكارثيّة معروف ومحدّد: إنّه المواطن ذو الدخل المحدود دون سواه من سائر البشر. وحين يجرؤ أحد على رفع الصوت عالياً ومطالبة الحكومة بأيّ خطوة، يأتي الجواب جاهزاً على لسان «الخبراء» والسياسيين: «النموّ... يجب تحفيز النموّ».
تتكرّر هنا لعبة الدول الغربية التي أرسلت أبناءها لتحيي ماضيها الاستعماري. لكنّ بلداننا لا تبعث إلى الخارج جنوداً، بل مهاجرين يبحثون عن فرصة عمل. يُرسَل الأبناء إلى الخارج، ثمّ يُطلَب من أهاليهم الدعاء لهم بالتوفيق كي يرسلوا أموالاً تذهب مباشرة إلى جيوب المحتكرين، أو بالوساطة عبر الرسوم والضرائب التي تستخدمها الدولة لدفع فوائد ديونها. تلك الفوائد التي تذهب إمّا للدول الغربية نفسها، وإمّا للمصارف المحلية وكبار المودعين فيها. وإحياءً لهذه الحلقة الجهنّمية، يمكن من حين إلى آخر إصدار كتيّب عن أساليب الاستهلاك الذكي، أو كيف تكون مواطناً تقيّاً ورِعاً ترضى برغد العيش بالحد الأدنى للأجور.
في إحدى المراحل، كان الدين العام أو عجز الموازنة هو الكلمة السحرية التي تُرفع في وجه كلّ من يطالب برفع الظلم الاقتصادي عنه، والتمتّع بمستوى معيشيّ لائق. فعلى الدولة أن تنصرف لدفع فوائد ديونها المتراكمة، وعلى المواطن أن يؤمّن المال للدولة كي تسدّد ما عليها. اختفى اليوم شعار الدين العام، وحلّ محلّه طلسم آخر هو النموّ، في بلد لا تنمو فيه إلا ناطحات سحاب فارغة من سكانها.
«ستّون فكرة من أجل استهلاك ذكي». شعار مُحتمَل للائحة انتخابيّة تُشكّل برعاية مضاربين عقاريّين ومصرفيّين وتجّار كبار تحت اسم غريب يُدعى... «المستقبل».