«حصيلة الأيام»: عن الكتابة والحنين والوجوه الهاربةفي مذكراتها التي عرّبها صالح علماني، تستعيد الكاتبة التشيلية ملحمة عائلتها، وتحكي عن هواجسها ومخاوفها وتنقلاتها الكثيرة... متوقّفة عند الآلام والأوجاع التي جبلت بها حياتها. أما الغموض الذي يكتنف بعض أعمالها، فتؤكّد الليندي أنّه «ليس وسيلة أدبية، وليس ملحاً وبهاراً لكتبي، مثلما يتهمني أعدائي، بل هو جزء من الحياة نفسها»

خليل صويلح

ليس في الإمكان فهم مذكّرات إيزابيل الليندي (1942) «حصيلة الأيام» التي عرّبها صالح علماني (دار المدى ـــــ دمشق)، من دون العودة إلى كتابها «باولا» (1995). حينذئذٍ، كانت ابنتها باولا في غيبوبة طويلة في أحد مستشفيات مدريد. وقد كتبت إيزابيل إلى جوار سرير ابنتها على دفتر ملاحظات، حكاية أسرتها على أمل أن تقدّمها هدية للابنة بعد تجاوزها المحنة المأساوية. لكنّ باولا لم تستيقظ أبداً، فتحولت الملاحظات إلى كتاب مؤثر. وها هي الروائية التشيلية المعروفة تتابع سرد تاريخ الأسرة بعد رحيل الابنة (1993)، وما حصل من تطورات في هذه «القبيلة» التي استقرت في مدينة كاليفورنيا الأميركية.
«كل حياة يمكن أن تُروى كرواية، وكل شخص منّا هو بطل أسطورته الخاصة. وفي هذه اللحظة، وأنا أكتب هذه الصفحات، تراودني الشكوك: هل جرت الأحداث مثلما أتذكرها ومثلما أرويها؟»، هكذا تبدأ الليندي اعترافاتها المثيرة مستعملة في الكتابة مائدة الجدة ذاتها التي ظهرت في روايتها الأولى «بيت الأرواح» (1984). الجدة التي كانت تحرك الملاعق على الطاولة في جلسات روحانية، ستترك أثرها على الحفيدة التي ما انفكت تخاطب الأرواح بمزيد من الثقة «فالعالم مكان سرّي وغامض جداً».
ترصد صاحبة «الخطة اللانهائية» (1991) حياة سلالة كاملة من الآباء والأبناء والأحفاد في يوميات صريحة، لا تنقصها الجرأة في المكاشفة، ويصل بعضها إلى حد الفضائح العائلية. إذ ينبغي أن تنصت روح باولا التي نُثر رماد جسدها في إحدى الغابات الأميركية الكثيفة إلى كل نأمة تحصل في غيابها.
وترى إيزابيل أنّ الأحلام تساعدنا في فهم الواقع، في أن تُخرج إلى الضوء ما هو مدفون في كهوف الروح. وهي بذلك تبرر غرائبية قصصها وغموضها. فالغموض وفق قولها «ليس وسيلة أدبية، وليس ملحاً وبهاراً لكتبي، مثلما يتهمني أعدائي، بل هو جزء من الحياة نفسها».
لن يكون مستغرباً إذاً أن يأتي شبح باولا في سيارة تاكسي لزيارة البيت، وأن يسمع أحد الأحفاد صوت أقدامها وهي تصعد الدرج. كما لن يكون صعباً أن تُقنع إيزابيل أمها الثمانينية بأن ترافقها إلى السكسشوبات أو «دكاكين البورنوغرافيا» في سان فرانسيسكو بحثاً عن الوحي، لإنجاز كتابها «أفروديت» (1997). ذاك الكتاب الذي كان وصفة إيروتيكية عن طريق المأكولات لإيقاظ ذاكرة الحواس.
ستختفي جنيفر ابنة ويللي الذي ارتبطت به إيزابيل إثر استقرارها في أميركا، من دون أن يجدها أحد. وستعيش طفلتها في حماية أم أخرى، وستكشف سيلينا زوجة الابن بنوع من الصدمة أنّها مثلية بعد إنجاب ثلاثة أطفال. إضافة إلى حوادث كثيرة تصيب هذه العائلة بمحن أليمة «فالسعادة أمر مستهجن، والمرء يأتي إلى الدنيا كي يعاني ويتألم».
هكذا تعيش الحياة من دون خريطة، طالما أنّه ليست هناك عودة إلى الوراء. ولتخفيف الحمولة الثقيلة للحزن، تلجأ إيزابيل إلى السفر والكتابة، كما تقول: كي «أحرث أرض الذكريات القاسية وأكتب هذه المذكرات». ترحال من دون توقف بين بلدان عدة لتوقيع كتبها الجديدة، واكتشاف العالم من الهند والصين إلى كينيا والأمازون. ففي السفر فرصة من أجل «ملء البئر مجدداً والعودة إلى شغف الكتابة». هذه الرحلات ستكون مرجعية ثمينة في كتابة ثلاثيتها للفتيان تحت عناوين «مدينة الوحوش» و«مملكة التنين» و«غابة الأقزام». الروايات التي أهدتها إلى أحفادها عن تماسيح بحجم القارب، ودلافين وردية، وقِرَدة، وضفادع ضخمة تختبئ في الخزائن... لكن هذه التجربة ستفتح المخيّلة على تجربة مثيرة أخرى، بإنجاز كتاب عن شخصية «زورو». وتقول إيزابيل في هذا الشأن «ليس هناك أفضل من طفولة رعب من أجل تحريض المخيّلة».
خلال السنوات الثلاث عشرة على غياب باولا، تروي صاحبة «عن الحب والظلال» (1984) تفاصيل يومية عما يواجهها في حياة يتحكم بها الحزن، من دون أن تنسى لحظة واحدة طيف ابنتها، والحياة في تشيلي ورسائلها المتبادلة مع أمها. الرسائل التي ساعدتها في استعادة بعض ذكرياتها القديمة في ظل الدكتاتورية، إضافة إلى لحظات فرح عابرة كتلك التي عاشتها خلال تصوير فيلم «بيت الأرواح» المقتبس عن روايتها الأولى بتوقيع المخرج بيل أوغست. كما حملها راية الألعاب الأولمبية في روما كواحدة من ست نساء مؤثرات في مجتمعاتهن.
الإقامة في أميركا علمتها الحنين إلى تشيلي أكثر، فهي بالكاد تفهم نوعية الحياة الأميركية وتناقضاتها. تستغرب أن تستحوذ فضيحة كلينتون مع متدربة بدينة في البيت الأبيض على اهتمام الحكومة، وأن يتوصل «سروال داخلي ملطخ إلى إحراز ثقل في السياسة الأميركية أكبر من الإدارة الاقتصادية والسياسية لأحد أكثر الرؤساء الذين عرفتهم تألقاً». كما تعلن أكثر من مرة احتجاجها على سياسة بوش الابن، وتطالب بكبح جموحه في الحرب على العراق في ظل تحكّم حفنة سياسيين متعصبين بما يجري في العالم.
الكتابة لدى إيزابيل الليندي علاج للشفاء من الأحزان وتمرين في ترتيب الذكريات، وهي في كل بيت تقطنه، كانت تختار كوخاً في طرف المنزل لتغوص هناك في استدعاء شخصياتها على ضوء الشموع، لتتحول إلى كائن آخر تتحكم فيه مصائر الشخصيات، وإذا بالعجلة الصدئة تدور فجأة فتنهال الكلمات من تلقاء نفسها. تقول إيزابيل بثقة إن «البدء بكتاب جديد لا يقل خطراً عن الوقوع في الحب. إنه اندفاع جنوني يتطلب انكباباً متعصباً». وتوضح أن كتابة الرواية تحتاج إلى عاطفة مندفعة «وقد كانت هذه العاطفة مشتعلة، ولكن لا بد من تزويدها بالأوكسجين كي تتأجج بمزيد من الألق».


فضاء مفتوح على الاحتمالات

«لا تفتقر حياتي إلى الدراما، لدي فائض من مواد السيرك للكتابة عنها»، بهذه العبارة تفتتح إيزابيل الليندي مذكراتها «حصيلة الأيام». وكم تبدو محقة وصائبة في وصف حياتها بالسيرك وسط عائلة عجائبية هي مزيج من التشيليين والأميركيين والصينيين. إذ توزعت العائلة بين مدن وبلدان متباعدة، وصار الأحفاد أصحاب أسر جديدة. في المذكرات، لكلّ حكايته الشيّقة والمؤلمة، ما يمثّل فضاءً روائياً مفتوحاً على الاحتمالات، فالصاعقة قد تأتي من أكثر الجهات هدوءاً.
هكذا، تمضي إيزابيل الليندي إلى الكتابة، تحرس حياتها بالشموع والذكريات مثل صائدة حكايات متيقظة لالتقاط الثمار مهما كان طعمها مرّاً. تواصل الإبحار في نبش أسرار ما كان لها أن تظهر للعلن لولا نفحة شجاعة منحتها إياها وكيلتها الأدبية كارمن بالثيس، حين اتصلت بها ذات يوم عاصف من مدريد وقالت لها «اكتبي مذكراتك يا إيزابيل»، فأجابتها «أسرتي لا تحب أن ترى نفسها معروضة أمام الملأ، يا كارمن». لكن كارمن أصرت على طلبها قائلة «لا تهتمي بشيء. أرسلي لي رسالة من مئتين أو ثلاثمئة صفحة وأنا سأتولى ما سوى ذلك، وإذا كان لا بد من الاختيار بين كتابة قصة أو إغضاب الأقارب، فإن أي كاتب محترف سيختار الخيار الأول».
وإذ ذهبت صاحبة «إينيس حبيبة روحي» (2007) إلى الخيار الأصعب، فإنها بذلك تثبت مرة أخرى أن الكاتب الجيد هو من يختار المناطق الشائكة للكتابة عنها. ألم تكشف في كتابها «بلدي المُخترع» سيرة بلادها في زمن الديكتاتورية، وذكرياتها عن عملها صحافية في تشيلي؟ مثلما فضحت في روايتها «عن الحب والظلال» مذبحة ارتكبتها السلطات التشيلية بحق حفنة من الفلاحين؟