بحثاً عن المدينة (العربيّة) الفاضلة في زمن ما بعد الحداثة
كتّاب ونقّاد التقوا في العاصمة السورية لمناقشة معنى المدينة وعلاقتها بالثقافة، في ظل التحولات التي طرأت على المجتمعات العربيّة خلال العقود الأخيرة. ورأى واسيني الأعرج دمشق «وطناً لغوياً»، تتداخل فيه المصائر البشرية وهواجس الوجود والأسئلة المعلّقة

خليل صويلح

سؤال المركز وسؤال الأطراف، المدينة والسلطة، الوطن المتخيّل، والوطن اللغوي، صورة المدينة في الرواية العربية الجديدة، المدينة والمواطنة. محاور أساسية طرحها على طاولة الحوار كوكبة من الباحثين العرب والأجانب في ندوة «المدينة والثقافة: دمشق نموذجاً». الندوة التي استضافتها «دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008» في قاعة «رضا سعيد» في 11 و12 من الشهر الحالي، كانت موقع سجال عن معنى المدينة وعلاقتها بالثقافة في ظل التحولات التي طرأت على المدن العربية في العقود الأخيرة، لجهة المركزية ونفي التعددية أو لجهة التجاور الثقافي.
وقد بدأ منسّق الندوة جمال شحيد من سؤال أساسي: «هل حافظت دمشق على ذاكرتها بأمانة، وهل الذاكرة الدمشقية هي ذاكرة منغلقة أم منفتحة على الآخر؟ وهل هي ذاكرة تسجيلية أم تحليلية، مدينة قيد التطور أم التكلس؟». أشار المفكّر والكاتب كمال أبو ديب في شهادته «المدينة وثقافة ما بعد الحداثة» إلى جملة أسئلة جوهرية تصب في سياق تحولات المدينة العربية، وذلك عن طريق تأمّل طبيعة المدينة المعاصرة من حيث هي «مربّع» لإنتاج الثقافة واستهلاكها. وقد وجد ديب أنّ المدينة كانت في مرحلة الحداثة موقعاً تشكّلت فيه الحداثة، وتمسرحت عليه، بوصفه «بوتقة» تنصهر فيها عناصر متباينة، لتنتج سبيكة متجانسة تمثّل ولعاً بجماليات الوحدة. لكن مرحلة ما بعد الحداثة ـــــ حسب أبو ديب ـــــ حوّلت المدينة إلى أيقونة تجسّد التنوع والتباين والاختلاف في الثقافة، وتولّد «جمالية التجاور»، من دون أن تسعى قوة مركزية فيها إلى صهر الثقافات المتعددة في سبيكة واحدة. بل إنّ كل القوى فيها تحتفي بوجودها المتميز وخصوصياتها، وتدخل في علاقات معقّدة بعضها مع بعض. ورأى أبو ديب أنّ عواصم الثقافة العربية التقليدية، مثل دمشق والقاهرة وبغداد، فقدت موقعها لمصلحة مدن الأطراف، ما جعل هذه المدن تعيش حقبة انهيار وتفتّت بسبب القبضة الواحدة التي تتحكم بالقرار الثقافي.
أما الكاتب وليد إخلاصي فأشار في شهادته «المدينة سلطة تصنع الثقافة»، إلى سؤال «ترييف المدن»، ليس من موقع الإدانة كما هي الحال في معظم الطروحات النقدية، إنما من موقع الاشتباك بين ما هو ريفي وما هو مديني. إذ إنّ المدن العربية نهضت، في نظره، على المخزون الثقافي الريفي، واختلطت الثقافة المدينية بالثقافة الريفية لتنتج قيماً متسامحة ومختلطة. ومن جهتها، رصدت الباحثة باولا فيفياني صورة المدينة المزدحمة والصاخبة لدى الروائيين السوريين الجدد، انطلاقاً من رواية «حارس الخديعة» لخالد خليفة.
الناقد العراقي عبد الله إبراهيم لمس في بحثه «السرد والمنفى والأوطان المتخيلة»، جغرافيا أخرى للمكان، تتمثل في المنفى بوصفه مكاناً طارئاً ومشبعاً بالأسى، ويفتقد الحميمية. فـ«المنفي ينطوي على ذات ممزقة، لا سبيل إلى إعادة تشكيلها في كينونة منسجمة مع نفسها ومع العالم».
من هذا الباب، على وجه التحديد، حاول صاحب «المطابقة والاختلاف» مقاربة كتابة المنفى وتمثلاتها السردية. هذه الكتابة التي تعيش ارتحالاً قسرياً بين الأمكنة والأزمنة والثقافات واللغات. وإذا بهذه الكتابة تنطوي على مزيج من الاغتراب والنفور المركّب، «كونه نتاجاً لوهم الانتماء المزدوج إلى هويتين، أو أكثر، وفي المقابل عدم الانتماء لأي من ذلك». وخلص إلى أنّ أدب المنفى على نحو خاص يستند في رؤيته الكلية إلى فكرة «تخريب الهوية الواحدة والمطلقة»، وتالياً فهو «أدب عابر للحدود، ويخفي في طياته إشكالية خلافية وقسوة عالية من التشريح المباشر لأوضاع المنفيّ».
من جهته، يتساءل الكاتب الجزائري واسيني الأعرج في شهادته: «كيف ينشئ الكاتب مدينته من رحم الكتابة؟»... وهل المدينة التي ينشئها الكاتب هي نفسها المدينة الحقيقية أم هي مدينة أخرى؟
ينطلق واسيني من دمشق باعتبارها «وطناً لغوياً»، سبق أن عاش فيها وتسكّع في شوارعها واختلط ببشرها. وها هو بعد عشرين عاماً يستعيدها في نص روائي. هكذا جاءت «طوق الياسمين» إعادة تخييل لمدينة اختبرها الكاتب بحميمية وشوق، عبر لعبة المجاورة بين ما هو واقعي وما هو متخيّل، لتتحوّل المدينة في نهاية المطاف إلى «وطن لغوي» في المقام الأول، تتداخل فيه المصائر البشرية وهواجس الوجود والأسئلة المعلّقة. أما الكاتب السوري نبيل سليمان فتناول الفسيفساء الدمشقية روائياً بفحص نصوص عبد السلام العجيلي وهاني الراهب وغادة السمان، وكيفية تأصيل صورة روائية متعددة الأطياف لمدينة سورية واحدة. ومن موقع آخر، تستعيد الروائية الفلسطينية سحر خليفة صورة القدس في رحلة البحث عن الذات، في البلدة العتيقة «قدس الأرواح والأطياف والتاريخ، وأسراب الحمام». فالقدس، كما تشير صاحبة «صورة وأيقونة وعهد قديم»، هي مكان عذابات المسيح، ومدائن تنتج الماضي في الحاضر عبر الحنين إلى مكان مفتقد ومنهوب «لكن الخطيئة الجماعية لا تنفي أوزار الفرد».
ولكن ماذا بخصوص البيئة الشعبية الدمشقية وكيفية تجليها أدبياً؟ يشير بطرس حلاق إلى نصوص أبي خليل القباني، ونزار قباني، وزكريا تامر، ويجد فيها مناخاً حيوياً في التعبير عن الثقافة الشعبية والعبور بها إلى مستوى إنساني، وذلك باستنباط خصوصية هذه الثقافة ومساءلتها اجتماعياً وثقافياً، برؤية نقدية صارمة، تفجرت عن نصوص استثنائية في خريطة الإبداع العربي. صورة المدينة الأخرى وتجلّياتها في الأدب الأوروبي، رصدها فيصل دراج بكشف النقاب عن علاقة بودلير بمدينة باريس، عبر جدل البناء والهدم، فجاءت في قصائده مرآة للعابر والمتلاشي وسط الجموع. وهذا ما قاد فالتر بنيامين إلى قراءة بودلير عبر صورة المتسكع الذي يمشي حراً بين جموع لا تعرفه في مدينة مصنوعة من الفولاذ، وتغص بالسلع. بينما تناول محمد شاهين صورة دبلن لدى جيمس جويس في «يوليسيس»... وإذا بها معمار لغوي يحتشد بخيال ميثولوجي آسر، ومقترح لتقنية روائية متفلتة من شروط السرد التقليدية.



غادة السمان الغائبة الحاضرة: قريباً إلى الشاشة

كان الجمهور الدمشقي في مؤتمر «الثقافة والمدينة» على موعد مع غادة السمان... لكنّها اعتذرت عن عدم الحضور، واكتفت بإرسال شهادة قصيرة عن علاقتها بدمشق: «غادرت دمشق مسقط قلبي، فأقامت مدينتي الأم في حرفي، وسبحت في الدورة الدموية لأبجديتي، جنباً إلى جنب مع بيروت المدينة التي احتضنت حرفي ودلّلته حين رحلت إليها إثر شجار العشاق بيني وبين دمشق قبل ألف عام...». حضور صاحبة «جسدي حقيبة سفر» ظل وارفاً عبر نصوصها وبومتها الأثيرة. وكانت روايتها الأخيرة «الرواية المستحيلة: فسيفساء دمشقية» تحية مضمّخة بالياسمين إلى مدينتها الأولى. الرواية التي تشبه السيرة والمذكرات الشخصية تقاسمتها بطلتان، وإذا بدمشق صندوق لاستعادة الذكريات والموروث الشعبي في تجوال طليق في الحارات الشعبية، لتحكي عن نساء قابعات وراء الشبابيك في مجتمع ذكوري قاسٍ. لكن غادة السمان تمرّدت على مجتمعها وحلّقت إلى فضاءات بعيدة مثل نورس وحيد. تقول: «أنا المرأة التي غرّبتها المراكب، وخذلتها، حين لم يبق من الأشرعة غير جناحيها».
في كتابة غادة السمان، تتعانق الكتابة والحياة على بساط واحد، كأن النص هو مرآة الذات بكل أوجاعها وأحزانها ومكابداتها. إنّها كاتبة تسبح في الحبر وتتعرّى «من الوريد إلى الوريد».
قريباً ستتحول روايتها «الرواية المستحيلة» إلى فيلم سينمائي بعنوان «حرّاس الصمت» بتوقيع المخرج سمير ذكرى، كما ستصدر احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية كتاباً احتفائياً عن صاحبة «اعتقال لحظة هاربة» بعنوان «غادة السمان: المهنة كاتبة متمردة» أعدّته سمر يزبك. هل تعود غادة السمان إلى دمشق يوماً، أو ستكتفي بحضور صورتها على واجهات المكتبات؟