بيار أبي صعبكثيرون اعتبروا أن فيلمه الأخير «موسيقانا» (2004) كان عن فلسطين. لكنّ جان ــــ لوك غودار يصنع أفلاماً فقط. بلا «موضوع»، فالفيلم عنده هو الموضوع، بل السينما إذا فضّلنا هي الموضوع. ولهذا ينظر كثيرون إلى أعماله، بصفتها صعبةً وخارج المتناول. بل يمضي غلاة القطيعة مع سينما غودار إلى وصفها بالمثقفة والذهنية والمضجرة و... غير الجديرة بالاهتمام. ينسى هؤلاء أن الناقد الشاب في «دفاتر السينما» العريقة الذي كان يعشق هيتشكوك وأورسون ويلز، غيّر مسار الفنّ السابع بعدما انتقل إلى الوقوف وراء الكاميرا، مطلقاً في فرنسا، مع تروفو ورومير وشابرول وريفيت وآلان رينيه وآخرين، ما عرف بـ«الموجة الجديدة».
إنّه أحد عباقرة القرن العشرين بلا شك، أخذ أداة التعبير الفنية والتقنيّة تلك إلى أماكن غير متوقّعة، وابتكر أسلوباً ومنطقاً وعالماً وزمناً خاصاً. أفلامه فسحة تأمل وانفعال قائمة على ترتيب سردي مختلف، لغة بصريّة وفيلميّة غير مألوفة، متعددة المستويات، كثيرة الإحالات والمراجع، تتطلب من المشاهد يقظة قصوى، وشراكة حقيقيّة في «صياغة» الخطاب الجمالي للعمل.
وغودار (1930) الذي قلب كثيراً من المعادلات الجمالية والفكريّة، مطبّقاً الأمثولة البريختيّة في السينما، معروف أيضاً بالتزامه الفكري والسياسي، على اختلاف مراحل حياته، منذ أيّام «الماويّة». إنّه مخترع عبارة «أبناء كارل ماركس والكوكاكولا» الذي تنبّأ بثورة الطلاب في فرنسا قبل أشهر من أيار/ مايو 1968 في «الصينيّة»، كان قد حقق فيلمه الأوّل مع آنا كارينا بعنوان «الجندي الصغير» عن حرب الجزائر (1961/ 1963). ولم يغب الفيتنام عن أفلامه منذ «بيارو المجنون» (1965)... وفي هذا السياق يمكن اعتبار الجرح الفلسطيني المفتوح في ضمير العالم، محوراً أساسياً في آخر الأفلام التي حققها غودار...
ونحن الذين درجنا على اعتبار غودار عربياً وفلسطينياً، كما ذكّر سمير قصير ذات يوم من أيلول/ سبتمبر 2004، خلال تظاهرة تكريميّة لصاحب «آخر نفَس» نظمتها «أيام بيروت السينمائيّة» (بمشاركة زميلنا الراحل وعمر أميرلاي وغسان سلهب وكاتب هذه السطور)، لا يمكننا سوى أن نشعر بالأسى، ونحن نكتشف أن السينمائي السويسري/ الفرنسي ذاهب إلى تل أبيب، ليحلّ ضيفاً بعد أيّام على «المهرجان الدولي الثاني عشر لأفلام الطلاب». كنا نفضّل أن يذهب إلى غزّة للاحتجاج على السياسة الهمجيّة والدمويّة لإسرائيل، وليتضامن مع شعب يعرف هو، أكثر من سواه، معاناته الطويلة والأليمة، كما ورد في الرسالة المفتوحة التي وجّهتها إليه الحملة الدوليّة للمقاطعة الثقافيّة والأكاديميّة لإسرائيل (www.pacbi.org). ونحن نضمّ صوتنا إلى أصوات نزار حسن وآن ــــ ماري جاسر وهاني أبو أسعد ومصطفى أبو علي، وغيرهم من السينمائيين الفلسطينيين الذين عبّروا عن غضبهم واستنكارهم لهذه الزيارة. زيارة لا يمكن سوى أن تكون دعماً لسياسة الاحتلال وتستّراً على جرائمه المتواصلة، بل وإخفاءها خلف واجهة حضاريّة مزيّفة. غودار لا تذهب إلى إسرائيل!