strong>عودة إلى فيلم «جنينة الأسماك» الذي احتفلنا بنزوله إلى الصالات المصريّة أخيراً. هل لعب مخرجه يسري نصر الله لمصلحة متعته الشخصية فقط، كما يكتب زميلنا وائل عبد الفتّاح، معرّضاً جمهور السينما الجادة لمزيد من الانقراض؟
وائل عبد الفتاح
«إنّه مغامرة كبيرة»! لم يُخيّل لأحد أنّ المنتجة تتحدث عن فيلم اسمه «بنات وموتوسيكلات». لكنّها صدقت نفسها. فهي كاتبة السيناريو وصاحبة رأس المال الذي حول قصة سباق الدراجات النارية إلى لقطات مصورة تراها هي فيلماً جريئاً، وتعد «الجمهور» بالمزيد. الفيلم يمكن أن يوضع ببساطة في خانة «سينما المقاولات» العائدة بقوّة هذه الأيام في مصر. هي سينما تظهر بين المراحل، تحصد أرباح المراحل السابقة، وتتفادى اللعنات. لكنّ مهمتها هي تشغيل ماكينة صناعة السينما لتفتح أبواب رزق للعمال، وثروات للمنتجين، وتحجز لنجوم فاتهم القطار مكاناً غير مأمول... في ريادة سينما المقاولات.
وبالفعل، هناك نجوم لسينما المقاولات ونوستالجيا جعلت فيلم «ورقة شفرة» (إخراج أمير رمسيس) يأتي بسمير غانم ضيفَ شرف، في شريط يقوم هو الآخر على «مغامرة» توضع على قائمة «الشبابية». هذه المغامرة كتبتها مجموعة من شباب صغار في السن، بدأوا التصوير بكاميرات الديجيتال أثناء الدراسة في الجامعة، وصنعوا أفلاماً متمرّدة على الشكل والقيم السائدة، وطاردتهم مباحث أمن الدولة. هذه العقليات المتحررة أغوتها النوستالجيا إلى سمير غانم، نجم من نجوم سينما المقاولات، فعدّته كما ورد على لسان شيكو، أحد مؤلفي وممثلي «الشفرة» علامةً في تكوينهم السينمائي.
الرأي صدمة لمن لا يرى في المقاولات سينما... غير أنّها بلا تأثير، أو تأثيرها مدمّر وبعيد عن التحرّر. لكنّها سينما لها جمهورها المفترض. ومكان في الذاكرة خاص بالطرائف السريعة التي تبقى بفعل الإلحاح، وبسبب خفتها ولعبها على سطح مشاعر فوارة. المشكلة أن تلك المساحة تحتل المساحات الأخرى... فتتحوّل السينما إلى نوع واحد، ومزاج واحد. وتصبح الخفة تفاهة شرسة، ديكتاتوريّة لا تعترف بما يخرق على نسقها، وتحتقر من تسوّل له نفسه الخروج عن القطيع. وجمهور في السينما، منذ فترة، قطيع. أسير هذه الحالة. خاضع تماماً لحدود يرسمها موزعون قال أحدهم، ذات مرة، إنّه سيحتفل بزجاجة شمبانيا، إذا وصل جمهور فيلم يوصف بأنّه «خاص» (أي لا يخضع لمعايير السوق) إلى ستة أشخاص في حفلة واحدة. وأضاف ساخراً أنّه سيطلب من هؤلاء المشاهدين بيانات الهوية الشخصيّة وأرقام التليفونات، باعتبارهم «حالات نادرة». هؤلاء الموزّعون يتحكّمون بمزاج السوق، ويجنون ثمار الاحتكار الذي يفرضونه.
لماذا تستحقّ السينما الخارجة عن السوق كل هذه السخرية؟ لماذا توضع كلّها في باقة تُسمّى «سينما جادة» (لها أسماء أخرى مثل سينما المهرجانات أو أفلام فنية)، ويختزل فنانوها ومشاهدوها إلى كليشيه ذلك الشخص الذي يقابلك بتقطيبة جبين، وجدية لا تخلو من استعراضيّة واضحة، ويرى المتعة تنازلاً عن هيبته؟ وضع كل الأفلام الخارجة عن الموديل المفضل لموزّع الشمبانيا في سلة واحدة، تصنيف طارد يشير إلى خسارة متوقعة أو أكيدة في حرب الإيرادات.
عشاق السينما السريون يردّون بطريقتهم، يتنكّرون لذاكرتهم أمام نجوم المقاولات والسينما التافهة. وهنا تنقسم السوق إلى بحر كبير من جمهور الأعمال الاستهلاكيّة، وفي خضمّه علبة زجاج صغيرة من الجمهور الخاص.
بهذا الخوف استقبل سكان «العلبة» فيلم «جنينة الأسماك» (راجع «الأخبار» 31 آذار/ مارس 2008)، ودار حوار في دوائر هذا الجمهور الخاص حول ضرورة مثل ذلك الفيلم، في هذا التوقيت! وطرحت أسئلة من نوع: لماذا يلعب يسري نصر الله لمصلحة متعته الشخصية فقط، متعة شخص واحد؟ أيجوز ذلك، ونحن معزولون إلى هذه الدرجة؟ ألم يكن من الأفضل أن يهتمّ بإقامة تواصل مع جمهور بعيد عنا، لا يلتفت إلينا، جمهور مستلب غائب عن كل شيء؟
هذا الكلام تعبير عن خوف من الانقراض، وبالتالي دعوة للهروب إلى الأمام من طريق شيء من الالتفات إلى الجمهور الواسع واهتماماته وأذواقه. فلنداعبه قليلاً، يفكّر الخائفون، لنعِ مزاجه قليلاً، ونأخذ هذا المزاج بعين الاعتبار... لنضحّ بعض الشيء بالمتعة الأنانية، الفرديّة، من أجل توسيع العلبة قليلاً كي يدخلها جمهور جديد.
لكنّ مغامرة يسري نصر الله كانت فردية أكثر. خائفة من الغرق في البحر. مكتفية باللعب في العلبة. مشغولة أكثر بالوقت العابر الصغير الذي نعيش فيه زمناً كاملاً، وفي عزلتنا نختزن زمن السينما، لا لنخرج كما دخلنا، تختلط صور الواقع بتهويمات الخيال... ونعيد النظر فى الواقع على حساب الصور الجديدة. هذا عندما تكون صوراً تستطيع اختراق الحواس المقيمة على السطح، وتنام في الذاكرة، لتصحو مع غيرها من كائنات تعيش بين الواقع والخيال. تبدو الحكايات هنا جزءاً من الصورة. ويبدو الجلوس في الظلام لتتبع مسار الحكايات، جزءاً من البحث عن ذات غريبة فقدت صورها قبل أن تراها. مثل أغنية راب تتراكم كلماتها من دون رابط سوى أصحابها، تكوّنت صور يسري نصر الله من دون تصاعد درامي، خطّ أفقي، مشحون بإيقاع واحد لكنّه يفتح أبواباً مغلقة لا تفتح إلا في الأحلام.
هذه هي المغامرة. ألا تكون الحكاية في الفيلم في متناول الجميع. تحكيها وتلقي بالصور في سلة مهملات مزدحمة. الفيلم عما تحت الأقنعة الخارجية لاثنين من ملوك الظلام. حياتهما خلف حواجز شفافة. كيف يرون هواجسهما وأذيال الخوف التي تجعلهما في عزلة مدهشة؟ إنّه عالم كامل من الخوف. عمومي (إنفلونزا الطيور والأمن المركزي وصراعات العمل)، وخاص (كيف تعيش من دون أقنعة؟ ماذا سيحدث إذا انفردت بنفسك في مكان لك وحدك؟ ما هي نتيجة المواجهة؟). الأسئلة متوحشة والإجابات مفتوحة. طبيب التخدير يحمي أسراره بمراقبة الآخرين. يسمع هذيانات المرضى في لحظات بين اليقظة والموت الموقت. والمذيعة تهرب إلى الاعترافات الليلية. حكايات خائفة، تداري خلفها خوف الطبيب والمذيعة، وكلاهما من عالم الناجحين ساكني الأحياء الراقية (الزمالك والمهندسين).
عالم خيوطه هشة وغائرة، ونقله إلى الشاشة يحتاج إلى أكثر من مستوى ويتطلّب أكثر من طريقة (أسلوب بريخت بأن يبتعد الممثل عن دوره... وحكايات ألف ليلة وسط الحكايات والصور). يسري نصر الله روى لنا بعض الحكايات أكثر من مرة، وفي كل مرة كانت تترك علامة مائية تتراكم مع سواها، فلا يصلنا منها سوى صورة غائمة عن سمك بلا ذاكرة، لا يلمس الحب الذي يحمي من الخوف.
شخصيات في عزلتها كيف يمكن أن تحكي حكايتها؟ تتماهى مع حيوانات (دواجن وكلب وعصفور وأسد)، لترى أحاسيسها عن القوة والحلم والحب والحياة والجنس والزواج والطائفية والإرهاب والشعر والوحدة. كل شيء، وفي كل اتجاه: هذا هو العيب القاتل في فيلم يسري نصر الله المشحون بدروس عن الوحدة القاسية في قلب الزحام.
ربما حاول يسري، عبر شراكته مع ناصر عبد الرحمن، أن يخرج من العالم المغلق لحكاياته. لكنّه خروج ملحوظ، بدا الانقسام فيه كأنه محاولة استدعاء للشرح، أو لتفكيك العزلة المفروضة على كائنات مرعوبة من الضيق. هارب في سيارته من البيت المنفصل، وهاربة من وحدتها بالاستمرار في بيت العائلة. هذه التمارين في الخروج لم تقسم العالم إلى مجرمين وأبطال، وشحنت الأحداث لتصعد بالضحايا وتنتقم من المجرمين. بل سارت لتلمس الأبخرة الصاعدة، وترسم عليها أشكالاً وصوراً قد تقود إلى فك أسرار الخوف الكبير.
هذه مغامرة في الظلام في مقابل مغامرات أخرى تقود إلى الظلام. ولكل مغامرة جمهور مفترض.
إنّها «تمارين في الهروب» لا تقسم العالم إلى مجرمين وأبطال، بل تحاول أن تفك أسرار الخوف الكبير


strong>مغامرون فرادى في حوض سمك
«حين ميسرة» فيلم خارج السوق هو الآخر. مخرجه خالد يوسف من متخرجي مكتب يوسف شاهين. أصغر من يسري نصر الله، لكنّه الاكثر التصاقاً بـ«جو» في السنوات الأخيرة. يسري اختار طريق اكتشاف ذاته المتلعثمة، المشحونة بالهذيانات والكوابيس والأحلام والصور المقطوعة... وخالد وجد نفسه في سينما الفضح السياسي. أفاد من خبراته في مساعدة شاهين بصناعة فيلم على طريقة «صحف المعارضة». فيلم عن خائفين من نوع آخر، وطريقته في حكي حكايات خوف مختلفة. إنّه يصرخ، ويفتح الكادر ليعلن العورات، لا لفضحها بل لنتعاطف معها، فتخرج خلفه تظاهرة ضد الحكومة. و«حين ميسرة» فعلاً أقرب الى إعلان تمهيدي لتظاهرة أو ملصق سياسي ساخن. والغريب أنّ ناصر عبد الرحمن شريك في صنع فيلمي يسري وخالد، هو أيضاً شريك الأستاذ في «هي فوضى». فكرة الخروج عن السوق هي ما يجمع «جنينة» يسري بـ«ميسرة» خالد. لكن خالد يوسف خرج عن السوق ليرتمي في سوق أخرى. سوق الصحافة المشاغبة. أما يسري نصر الله، فمغامر حين يبحر خارج جاذبية السوق، لا أحد غيره يعرف الى أين سيذهب. خالد يوسف فضح الحكومة بشكل صاعق، واعتبره أهل اليسار من محبي سينما النضال «أعجوبة السينما». أما جمهور يسري، فأفراد لا يجمعهم سوى شيء غامض، يذكّر بما حدث قبل سنوات بعيدة مع تجربة «المومياء» (شادي عبد السلام) و«الاختيار» (يوسف شاهين). مغامرات فردية فتحت سينما جديدة، وفتحت أبواباً أمام يسري نصر الله وأسامة فوزي وداود عبد السيد. مغامرون فرادى في علبة لا تشبه حوض السمك.