strong>سعد هاديمن النظرة الأولى، يكتشف المشاهد أن لا جديد في المعرض الذي أقامه أخيراً المركز الثقافي الفرنسي في دمشق، لخمس رسّامات وعشرة رسّّامين عراقيين، بعنوان «فنانون عراقيون في المهجر». لا جديد على صعيد الأساليب والرؤى واختيار زاوية النظر إلى ما يجري عراقياً، أو حتّى إشعار المشاهد بأنّ هذا الرسم آتٍ من مكان محتدم يضج بالكوابيس وصور الموت. إذ إنّ كل ما عرض جاء أقرب إلى «فنّ الصالونات»، أو ما يمكن اعتباره رسماً من دون طابع، أو من دون لمسة شخصيّة. كما يمكن أحياناً تصنيف كل تجربة على أنّها خليط غير ناضج من تجارب مكرّرة ومألوفة، وخصوصاً لدى المطّلعين على التجارب الرئيسة المعاصرة في التشكيل العراقي.
راوحت الرسوم بين تجريدات لونية عند مطيع الجميلي ووليد أرشد وأحمد الكرخي وحنان الشندي ووضاح مهدي، أو تنويعات زخرفية كما في أعمال ندى كريم وعامر علي وعباس العمار وصلاح سليم ولينا عبد الرضا وجنان العزاوي وعامر بدر وعمر عودة، أو تهويمات شكليّة غامضة قريبة من السريالية لدى فادية محمد ومروان كريم. تجريد أقرب ما يكون إلى رسم مشاعر غريزية، أو إظهار انفعالات مكبوتة. لا يمكن أن نغفل كون معظم الرسوم منفّذة ببراعة وحرفيّة عالية، لكن البراعة والحرفية لا يمكن عدّهما من اكتشافات الرسام ذاته، بل جزء من تقليد متداول شاع في الرسم العراقي في العقدين الأخيرين.
منذ بداية التسعينيات، كان التشكيل العراقي يمر في مأزق يتفاقم من دون أن يمثّل ذلك ــــ رغم تنبيهات النقّاد والفنّانين المتكررة ــــ مشكلة ثقافية أو اجتماعية، لماذا؟ بسبب وجود مشاكل أكثر إلحاحاً. كما أنّ البلاد التي كانت تسير بخطوات متسارعة إلى الكارثة، ظلّت تعيش فوضى قيمية ومعرفية. وكان التوقف لمناقشة مشكلة ثانوية يعدّ ترفاً. كان الرسّامون من جانب آخر (النخبة منهم) يحاولون عبر طرائق وأساليب تجريدية وتزويقية الابتعاد قدر الإمكان عن الاحتكاك بالسلطة، ويحاولون التملّص من تلبية حاجاتها التعبوية. ومنذ ذلك الوقت، (وربما قبله أيضاً)، ونتيجة للعزلة والانغلاق على الذات بسبب الحصار الثقافي، شاع مفهوم أن الحداثة تكمن في التجريد، أو أن الشخصية المحلية قد تتحقق عبر مفردات وعناصر زخرفية يمكن حشرها في المساحة التصويرية لتأكيد الطابع الشعبوي.
وكان التشكيل العراقي قد وصل بمشقة إلى الحداثة، لكنّه لم يتجاوزها إلى ما بعد الحداثة بانفتاحها الأسلوبي... وإعادتها لشأن الأساليب التعبيرية والتشخيصية، في مواجهة مشاكل الإنسان والطبيعة ولانهائية الكون. كما أنه بانتقائيته وتلفيقاته الأسلوبية ــــ لدواعٍ إيديولوجية أو منساقة لها ــــ شتّت توصلاته الحداثوية وأحالها إلى مظهر خدّاع، أو إلى معالجات شكلية يعاد استنساخها واستثمارها تجارياً، حتى بات يصعب نقدياً التعرّف إلى التطور المنطقي والطبيعي لحركة التشكيل في العراق. هذا التطوّر يكاد يضيع وسط تراكمات لانهائية، من أساليب مكررة ومتشابهة، بينما أصبح من اللازم للرسام أن يكون تجريدياً ليقال عنه إنّه معاصر.
معرض كمعرض الفنانين في المهجر يأتي في هذا السياق. إذ لا أثر فيه لانعكاسات الوضع العراقي. وبالطبع، لا نعني أن يقدّم الرسامون وثائق مباشرة عما يجري، لكنّ المعرض خلا من أي اكتشاف، تقنياً كان أو رؤيوياً. إذ إنّ بعض اللوحات تستنسخ سواها داخل المعرض نفسه، تعيد الخصائص والتراكيب والبنى نفسها. كأن رساماً واحداً رسمها: تجريدات لونية متشابهة تجنح أحياناً إلى استعارات زخرفية فولكلورية، وأقواس وكتابات وخطوط وإشارات طقسية، تحدد الخيال أو تلقي القبض على من يحاول أن ينطلق منها خيالياً إلى ما خلفها... مع أن ما يكمن خلفها، هو واقع مرّ وملتبس، وحافل بالتناقضات التي تحتاج إلى دهور من الرسم والكتابة للإحاطة بجانب ضئيل منها.
هذا المعرض الذي يأتي بعد خمس سنوات على الاحتلال الأميركي (دليل المعرض المطبوع لا يشير إلى أي احتلال، بل يكتفي بذكر عبارة الحرب التي بدأت في آذار/ مارس 2003) يقدم المأساة العراقية والخراب الناتج منها بالتجريد... فيما الواقع يؤكد: ليس بالتجريد وحده يحيا الرسّام.