دمشق ـــ خليل صويلح كلما نأى بعيداً، ازداد حضوره في الذاكرة. تلك هي صورة نزار قباني في الوجدان الشعبي اليوم. عشر سنوات على غيابه لم تمحُ رنين كلماته في الشوارع وخلف نوافذ العشاق وفي حناجر المغنين، كما لم يخفت عطر ياسمينه فوق أسوار دمشق القديمة التي شهدت صرخته الأولى في حارة مئذنة الشحم. الشاعر المتمرد والطليعي أعاد تظهير صورة جده الأول أبو خليل القباني رائد المسرح العربي على نحو مشابه. إذ غادر الجد دمشق القرن التاسع عشر منفياً إلى مصر، بعدما أحرق الظلاميون مسرحه، فيما اضطر الحفيد إلى التجوال في عواصم العالم، حاملاً دمشق بين أضلاعه مثل قربان، ليعود إلى ترابها أخيراً، فتشيّعه المدينة كما يليق بشاعر.
كانت قصيدته «خبز وحشيش وقمر» (1954)، سبباً لإشعال الحريق، إذ ثار عليه بعض رجال الدين وطالبوا بقتله فكان أن غادر دمشق ليعيد كتابتها على نحو آخر في نوستالجيا نادرة، ظلت تتكرر في قصائده حتى آخر حياته. وحين صدر مرسوم جمهوري بتسمية أحد الشوارع باسم صاحب «الرسم بالكلمات» (1966)، قبل رحيله بأشهر، قال مغتبطاً «هذا الشارع الذي أهدته دمشق إليّ هو هدية العمر، وهو أجمل بيت أمتلكه على تراب الجنة... تذكّروا أنني كنت يوماً ولداً من أولاد هذا الشارع، لعبت فوق حجارته، وقطفت من أزهاره، وبللت أصابعي بماء نوافيره».
كان ديوانه الأول «قالت لي السمراء» (1944) الذي طبع منه ثلاثمئة نسخة، بثمن أسورة ذهبية لجدته، بمثابة زلزال شعري كاسح أصاب الخريطة العربية بكل تضاريسها وسباتها الشتوي الطويل، لتستيقظ على معجم آخر، وأبجدية معجونة بالنار والتراب في هجاء مرير، وزمهرير شعري أطاح الجميع. ها هو شاعر شاب يتمرد على كل القيود والأعراف في قطيعة صريحة مع المرجعية التراثية، ويكتب قصيدة تُخرج المفردة من عتمة القواميس لتتحول إلى عصفور يحط على النوافذ. شاعر غاضب ينطق بصوت المرأة وقضاياها بمعجم جديد وكيمياء تمزج المألوف والبسيط واليومي بالمجاز، وإذا بالقصيدة تولد من رحم العشب والماء، وتنبت بكل ما هو حميمي وعفوي ومسكوت عنه. قصيدة تتنزّه في الشوارع على هواها، وتنثر العطر تحت نوافذ العشاق، بعدما أدارت ظهرها لجزالة اللفظ وفخامة المعنى، وأسست لسلّم موسيقي مصنوع من الحرير يعمل على الحواس والظلال. شاعر يكتب عن «الحب والبترول» في نص واحد، ويهتف بصوت صريح أن جسد المرأة ليس عورة، وأن الأنثى موضوع شعري مستقل بذاته، وليس له علاقة مباشرة بصليل السيوف والخطابة. نزار قباني الذي لم يخرج من عباءة حزب أو أيديولوجيا، كان حزباً وحده، وقد أحرق سفنه في وضح النهار، وأبحر في مياه مجهولة، وإذا به يملأ الدنيا ويشغل الناس مثل متنبي جديد يتأبط قاموس عمر بن أبي ربيعة.
على أسوار شارع الحمراء في دمشق، يرصف البائع دواوين نزار في طبعات شعبية مقرصنة، كأن لكل جيل طالع حصته وطوافه حول نار هذا الشاعر الرجيم. الشاعر الذي حوّل الكلمات إلى لهبٍ وغضب وبركان في أكبر انقلاب شعري يشهده ديوان العرب المعاصر، وخبز يومي في متناول الجميع. وها هي الطبعة الـ33 من «قالت لي السمراء» تباع بدولار واحد فقط.
وفي الشارع الذي يحمل اسمه، سيعرّش الياسمين مجدداً على الأسوار، إذ تقوم ورشة من محافظة دمشق بحملة لزراعة أشجار الياسمين في حدائق البيوت التي تطل على الشارع، وذلك وفاءً لذكرى الشاعر، كأن الياسمين تعويذة تحمي روحه من الفناء. وعلى ناصية الشارع نفسه تضيء لوحة إعلانية ضخمة بكلماته «لا أستطيع أن أكتب عن دمشق دون أن يعرّش الياسمين على أصابعي». اللوحة هدية احتفالية «دمشق عاصمة الثقافة العربية ـــــ 2008». وقد كان صاحب «الحب لا يقف على الضوء الأخضر» (1985)، أحد المحتفى بهم، إذ طاف ممثلون في الحدائق والساحات العامة لمناسبة اليوم العالمي للشعر والذكرى الخامسة والثمانين لمولده، وألقوا قصائد نزار قباني في عشق دمشق، أليس هو من قال ذات يومٍ بعيد «وددت لو زرعوني فيك مئذنة أو علّقوني على الأبواب قنديلا»؟ من جهة أخرى، أصدرت الأمانة العامة للاحتفالية كتاباً تذكارياً عن الشاعر بعنوان «نزار قباني: قنديل أخضر على باب دمشق» أعده خالد حسين.
لكن ما مصير «متحف نزار قباني» وهل ماتت الفكرة في مهدها؟ ليس لدى المعنيين إجابة عن هذا السؤال، سواء وزارة الثقافة أو وزارة السياحة أو محافظة دمشق. إذ سبق أن أطلقت أكثر من مؤسسة رسمية فكرة إقامة متحف يضم آثار الشاعر، ومقتنياته الشخصية، ومسودات قصائده ورسائله. لكن الفكرة طويت منذ أعوام على رغم توافر أكثر من مكان مناسب لإحياء ذكرى الشاعر.
هذا الإهمال، يعيد إلى الذاكرة مصير بيت أبي خليل القباني أو «خرائب البيت». إذ قيل إنّ وزارة السياحة في صدد ترميم البيت وتحويله إلى فضاء مسرحي مكشوف، ومكتبة مسرحية على أن يفتتح خلال هذا العام لمناسبة «احتفالية دمشق» ثم طويت الفكرة أيضاً، وربما أُجِّلت حتى إشعار آخر!
شارع نزار في ذكرى رحيله يخلو من العشاق، وبالكاد يتذكّر أحد أنّه يسير على رصيف شاعر العشق. أما زيارة قبره في مقبرة «باب الصغير» في حي الشاغور، فتحتاج إلى دليل: الضريح محاط بسور من الحديد الأخضر، ومن بين القضبان يطل الرخام حيث يرقد الشاعر إلى الأبد، إلى جوار شجرة زيزفون، وقد كُتب على شاهدة قبره عبارة واحدة «نزار قباني: فقيد الشعر العربي».