strong>أدونيس ـ سمير الصايغ ـ إتيل عدنان ـ فاتح المدرّس«نبيّ» الحداثة العربيّة، وخليل المتصوّفة، ومسافرة الأعماق والأقاصي، ورائد المحترف السوري (الراحل)... أربعة شعراء جمعتهم «غاليري أتاسي» الدمشقيّة في معرض مشترك يضمّ بعض تجاربهم التشكيليّة...
خليل صويلح
أدونيس، سمير الصايغ، إتيل عدنان، والراحل فاتح المدرس، أربعة شعراء يجتمعون على جدار واحد بوصفهم رسامين. مائدة لونية باذخة، لا بد من أن تستحضر طيف قصائدهم وتجليات الريح في الكلمة واللون والمعنى. معرض «شعراء تشكيليون ـ تشكيليون شعراء» الذي تستضيفه «غاليري أتاسي» في دمشق (حتّى آذار/ مارس)، فرصة لاكتشاف الظلال الأخرى لهؤلاء الشعراء وتلمّس صورة مختلفة لمشاغلهم وابتهالاتهم اللونية والبصرية.
أدونيس صاحب المغامرة الشعرية المحتدمة بالتحوّلات، يجد نفسه هذه المرة في مقام آخر: ها هو يرسم تمائم في كولاج لوني على خلفية قصائد للمعري والمتنبي والنفّري في حوار غامض يستدعي أسئلةً مبهمةً. هي أسئلة الشعر حين تستعصي الكلمات على القول، أو حين يرغب في أن يكتب نصاً آخر لم يقاربه في شعره، فيلجأ إلى ما هو مهمل في اليومي ويعيد إنتاجه بصرياً في أقصى حالات التجريد. وإذا باللوحة تصير تميمة أو طوطماً يضاف إلى شعرية أدونيس ذاتها. فليس ممكناً النظر إلى لوحات صاحب «مفرد بصيغة الجمع» من دون استحضار نصّه الشعري ومعاينة خطابه البلاغي، وإن كان حجم المغامرة في اللوحة يتجاوز الشعرية في استعمال مواد هي من صلب اهتمامات ما بعد الحداثة لجهة التشظي واللامركزية، وحتى أعمال التجهيز. كأن أدونيس آخر يتململ من منجزه الشعري ويتطلع إلى قماشة أخرى في مخاطبة العين مباشرة أو البصر والبصيرة في آن واحد.
يتخفّف أدونيس هنا من ثقل العبارة إلى الكثافة البصرية، في موازاة ما يمكن أن نسمّيه قصيدة نثر تشكيلية. إذ تتعالق أشياء متنافرة على سطح واحد لتشكّل نسيجاً يعكس قلقاً وجودياً ومتعة بصرية، وتحويل المتضادات إلى ما هو حسّي ومرئي في معالجة اللامرئيات كامتداد لكتابة شعرية ولكن باستخدام أدوات وعناصر أخرى.
ليست لدى أدونيس وصفة جاهزة تجاه «رقيماته»، فهو يناوش سطح اللوحة بمفردة تشكيليّة تشبه الجملة الأولى في القصيدة. هذه الجملة، وفق ما يقول، قد تأخذ مكانها في متن القصيدة، أو تندحر إلى الهامش أمام مقترحات أخرى في الكتابة والمحو، والتأمل والسؤال. هكذا، سنكتشف نقيض النص لكسر صورة أدونيس، فهو في هذا المقام كائن آخر له مسوّغاته في تركيب القماش والمعادن واللون. حتى إنّ القصيدة ذاتها تتحوّل إلى خلفية أو مرآة لنص يسعى إلى نبذها وإطاحتها، لمصلحة مغامرة لا نهائية في اللعب وبهجة الاكتشاف والمغامرة.
لكن هل ما يجري على السطح يفترق عما هو موجود في العمق؟
يقول أدونيس أن لا وشائج بين النص الكتابي والكولاج التركيبي على السطح، فهو مجرد زخرفة وخلفية. المتلقي من جهته لديه قناعات أخرى... وإلا فلماذا هذه القصيدة لابن الرومي مثلاً في هذه اللوحة دون غيرها؟ وما مبرر اختيار هذا النص دون سواه؟ وكيف هاجر عن متنه الأصلي لمجرد أن يكون خلفية لما هو غرافيكي في اللوحة؟ لا شك في أنّ أدونيس وجد متعة في رفد نصه الشعري بنص بصري في مقاربات وتكوينات جمالية تنمّ عن رغبة معلنة في مقارعة التشكيل وجهاً لوجه في سياق تحولاته وتناقضاته اللانهائية.
في تجربة سمير الصايغ، نكتشف هواجس أخرى في ما يخص الخط العربي والبعد الموسيقي للحرف، ونهماً شديداً لامتلاك البعد الفلسفي للفن الإسلامي بعيداً من الحروفية الاستشراقية. فهو يتوغل في الجزء لامتلاك ناصية الكليات بتأليف معنى مختلف للحرف بأقصى حالات الزهد والتقشف. هكذا يصير الحرف بمفرده معزوفة موسيقية تحيل على جماليات ما أنجزه الأسلاف أمثال ابن مقلة وابن البواب والواسطي، بتنويط اللوحة كما لو أنها سلّم موسيقي بتدرجات خطية باهرة في البحث عن «ما لا يكتب وما لا يقال». هكذا، يبتعد هذا الشاعر والفنّان اللبناني عن التزويق وحرفة الخطاطين، كما يعزف عن «الاندراج في خانة المصورين الحروفيين، ويفضّل الذهاب إلى تأمل واعتناق جماليات المخطوطات القديمة بما تحمل من بصمات فعل الزمن والتاريخ». والخط في أعمال صاحب «مقام القوس وأحوال السهم» إشارة لا وسيلة. هو عمارة قائمة بذاتها تستمد الضوء من الداخل في محاورة فلسفية وموسيقية، فلكل حرف دلالته وبهجته البصرية، بالاستناد إلى ما أنجزه الرواد الأوائل واستكمال تلك المهارة التي توقفت منذ سقوط بغداد (1250). ذلك أن الخطاطين العرب والإسلاميين تحوّلوا إلى النقل منذ ذلك الزمن وتوقف الابتكار في هذا الفن العظيم. ويتساءل الصايغ: «أين الرسوم الحقيقية للواسطي. ما نشاهده هو مجرد صور عنها. أما النسخ الأصلية، فهي موجودة في المتاحف الأوروبية فقط؟». ويحلم الصايغ بأن يترجم الموسيقى التي يستمع إليها أثناء الرسم إلى إشارات وخطوط، كما يفعل باخ في موسيقاه. ويعترف بأنّ باخ هو أحد مصادره في التدوين والكتابة الخطية «لأن تركيب الجملة الموسيقية لديه يشبه تركيب الزخرفة العربية في وحداتها الهندسية ومتتالياتها اللانهائية في التجريد».
ونصل الى إتيل عدنان التي تقع تجربتها في منطقة قصيّة. فالشاعرة العربيّة ـ الأميركيّة من أصول تركية ولبنانية شاميّة، التي تعيش بين بيروت وباريس ولوس أنجلوس، تمزج الكلمة باللون فيختلط المكتوب بالبصري عبر مائيات شفيفة تأتي على شكل أكورديون ورقي، في متتاليات لونية تتوسّل التجريد ملاذاً للكلمات. وإذا بالنص المكتوب يرمّم ما ينقصه من تجليات من طريق الألوان بريشة عريضة ونزقة تستنجد بما هو غائب ومنسي، جرياً على عادة نُسّاخ المخطوطات القديمة.
أما الراحل فاتح المدرس، رائد الحركة التشكيليّة السوريّة، فنصيب الجمهور منه تخطيطات بالأبيض والأسود والترابي. تبدو لوحاته المعروضة في «غاليري أتاسي»، كأنّها نماذج أولية للوحات قيد الرسم. أشكال بدائية وخطوط غير مكتملة وكتابات شعرية عند تخوم اللوحة. ولعل المدرس الذي هو تشكيلي في المقام الأول، يعمل هنا على نص تشكيلي مختلف يفتقد اللمسة النهائية التي نقع عليها في لوحاته الأخرى... كأن هذه الرسوم برزخ لجحيم سيقترب بعد قليل.


حتى 25 آذار (مارس) الحالي ـ «غاليري أتاسي» (دمشق): 00963113321720
www.atassigallery.com



قل لي: هل يلدُ العقل جرذاً؟
اعتاد فاتح المدرّس (1922 ـ 1999) أن يكتب على جدران مرسمه عبارات تخطر في باله أثناء الرسم، تعبّر عن انفعالاته اللحظية، لكن هذه الرغبة كثيراً ما تدخل في عمق اللحظة الشعرية. هكذا احتوى ديوانه الوحيد «الزمن الشيء» (1985) شذرات من كتاباته وهواجسه. شذرات تختزل روحاً ساخطة، متأملة ونزقة، تشبه إلى حدٍ كبير سطح لوحته بخطوطها المختزلة والعميقة.
يكتب في إحدى شذراته «إن آخر ما يموت في غابة الدهشة هو اللون» وكذلك «هذا العالم تأكله جرذان الكمبيوتر. قل لي: هل يلد العقل جرذاً؟».
تسع سنوات على رحيل المدرّس. لكن حضوره في المحترف السوري يزداد تألقاً. إذ ظلت لوحته في الواجهة، وما زال عشاق فنه يتلهفون لحضور معارضه الاستعادية، ويتشوقون لقراءة مذكراته التي يُتوقع أن تصدر قريباً. كما أن مجموعته القصصية الوحيدة «عود النعنع» (1959)، صدرت في أكثر من طبعة متتالية، وتحوّلت إحدى قصصها إلى فيلم سينمائي بالعنوان نفسه.
الطلب المتزايد على اقتناء أعمال المدرّس، قاد ورشة مجهولة أخيراً إلى تزوير عشرات اللوحات ونسبتها إليه في محاولة لاستثمار شهرته، لكن خبراء اكتشفوا اللوحات المزوّرة لصعوبة تقليد توقيع «مدرّس».
لم يكن فاتح المدرّس تشكيلياً وشاعراً وقاصّاً وحسب، بل كان موسيقياً أيضاً، وسبق أن قدّم تجارب تشكيلية ارتجلها أثناء استماعه إلى الموسيقى. هذه الكيمياء السحرية أنتجت فناناً من طراز خاص عبر رحلة طويلة قادته من قرية «كفر جنة» في الشمال السوري إلى روما ثم دمشق كأبرز رموز الحداثة في المحترف السوري والعربي، وظلت كائناته السابحة في لجة موسيقى شرقية وصوفية «تظهر وكأنها على وشك الغرق».