الأسماك بلا ذاكرة... فماذا عـن الناس على هامش «المدينة»؟«جنينة الأسماك»الذي انطلقت عروضه المصريّة أخيراً، يرصد راهن القاهرة من خلال كائنات خائفة ومهزومة، تهيم على وجهها غير معنيّة بالصراعات الدائرة حولها! هل يحقق صاحب «باب الشمس» نجاحاً تجارياً في سوق تحرّرت لتوّها من ديكتاتوريّة الكوميديا النظيفة؟

محمد خير
مثل قصيدة لا تجد ديوانها، جاء فيلم يسري نصر الله الجديد «جنينة الأسماك» الذي بدأ عرضه أخيراً في صالات القاهرة، لوحةً سينمائيةً في معرض خاوٍ، ومستويات متعددة العمق، لكنّ أدنى تلك المستويات يحلّق بعيداً عن متناول الجمهور، فيما الإيقاع السردي يستعير الراوي المسرحي للوصل بين «فصول» الفيلم. مثل معظم أفلام نصر الله، لكي لا نقول كلّها، لن يحقّق الفيلم إيرادات مرتفعة... فمَن قال إنّ الجمهور الواسع يحبّ الفلسفة؟
على أي حال، لا يعير صاحب «باب الشمس» بالاً كبيراً للمفهوم التقليدي للنجاح في السوق المصرية. هو يرى أن كلّ فيلم من أفلامه مغامرة مستقلة، ويراهن على ذلك المُشاهد الفرد الذي يتابعه من فيلم لآخر. ذلك المشاهد نادراً ما خرج من الصالة إلّا وكان مكتفياً، فنياً وإنسانياً وفكرياً. «جنينة الأسماك» لا يشذّ عن هذه القاعدة، لكنّه بالغ قليلاً وربما كثيراً. في صالة السينما، لم يكن صعباً سماع عبارات الاستفسار والاستفهام. الموزّعون السينمائيون باتوا يعرفون اللعبة، لذا لم يمنحوا يسري عدداً كبيراً من صالات العرض. لا بد من أن تبحث جيّداً في الجريدة كي تعثر على الصالات التي تستضيف الفيلم: كلّها شاشات داخل مجمعات سينمائية، إذ يصعب أن تغامر دور الشاشة الواحدة باستضافة «جنينة الأسماك». حتى المنتج نفسه (أفلام مصر العالمية) لم يعرض الفيلم في سينما «أوديون» التي يمتلكها، والتي لا تزيد شاشاتها عن ثلاث. بل أرسل الشريط للعرض في «جالاكسي» المملوكة للشركة نفسها، لكنّها تحوي ستّ شاشات يمكن فيلم يسري «الاختباء» بينها.
لا أحد مطمئناً في «جنينة الأسماك» لكن لا أحد أيضاً يعرب عن خوفه بصراحة: ليلى (هند صبري) تمعن في وضع الماكياج كقناع إضافي فوق ملامحها المتحفظة، تعيش مع أمها وشقيقها، وتعمل مذيعة راديو تقدّم برنامج «أسرار الليل» الذي يفصح مضمونه عن عنوانه. تستمع ليلى إلى أسرار المتّصلين، وتحاورهم دونما تعاطف حقيقي أو تورّط. على الأقل حتى يتصل ببرنامجها الطبيب يوسف (عمرو واكد) الذي يقضي أيامه في العناية بوالده المصاب بالسرطان (جميل راتب). يتحمّل يوسف بصبر سوء معاملة الأب له. وهو مثل ليلى يستمع إلى أسرار الناس، لكن عبر التنصت على هلوساتهم تحت التخدير في المستشفى. وفي الليل، يذهب إلى العمل في عيادة للإجهاض، حيث تتساوى فتيات الليل مع المغتصبات والمراهقات الخائفات من الأهل. يوسف أيضاً لا يتورّط مع أحد، لكنّه ــــ في نهاية اليوم ــــ لا يجد نفسه قادراً على النوم في بيته الخاص. يقضي لياليه نائماً في سيارته: وراء شبابيكها المغلقة فقط، ينال منه النعاس.
أما ليلى التي لا تشارك في أي نشاط اجتماعي أو سياسي ولا تعرف سوى ميكروفونها وحياتها الباردة، فإنّها تترك جسدها ـــ أحياناً ــــ متاحاً لأياد غريبة تعبث به في النوادي الليلية. تمرد صغير على حياتها الصارمة، لا يصل درجة اتخاذ خيارات حاسمة. يوسف وليلى روحان يتحرّكان في مدينة لا يشعران بها ولا تشعر بهما، تشتعل بضجيج المرور، وعنف الشارع، والتظاهرات ضد الغلاء. لكنّ أياً منهما ليس شريكاً في ذلك، إنّهما أكثر عجزاً حتّى من المتصلين ببرنامج ليلى أو المرضى المخدرين في مستشفى يوسف.
وسط حالة الوحدة تلك، يبدو طبيعياً أن تنضب الذاكرة. «السمك ما عندوش ذاكرة»، يصرخ يوسف في وجه حارس جنينة الأسماك، حين يحاول إقناعه بأنّ السمك يحفظ شكل الشخص الذي يقدّم إليه الطعام ورائحته. يطوف يوسف في الحديقة التي دَخلها بعد تردد طويل. يتأمل أحواض السمك، فينشرخ أحدها فجأة ويتحطّم زجاجه، يندلق الماء وتقع الأسماك على الأرض. لكنّ عمّال الحديقة يتصرّفون بعادية. ويبدو الأمر كلّه أقرب إلى الكابوس، تماماً مثل مشهد مروّض الأسود في السيرك الذي دخلته ليلى. فما لم تعترف به لنفسها هو أنّ المروّض يذكّرها بنفسها. إذ تتحكّم في اتصالات المستمعين، لكنّ يوسف عرف ذلك، وفاجأها به عبر هاتف البرنامج. يلتقيان فجأة. لكنّ اللقاء الذي صنعته المصادفة جاء متأخراً ضمن أحداث الفيلم، فهل يكون متأخراً لتغيير حياتيهما؟ لن نعرف أبداً. لكنّ يسري نصر الله يعطينا تلميحاً بسيطاً، فأثناء صدمة اللقاء المفاجئ، تمسح ليلى ماكياج وجهها في خضم الهستيريا.
مثل تكوين هندسي متعدد الزوايا لا يمكن الإحاطة بجميع جوانبه، يبدو «جنينة الأسماك» عصيّاً على التلخيص، وصعباً على «الفرجة». فهو يتخلى عن المعادلات المعروفة، من دون أن يبدو منطقه الخاص واضحاً أو متاحاً. حتى كاميرا سمير بهزان تتحرك بانسيابية تتخللها اهتزازات فجائية، ربما تتحرك ـــ بدورها ـــ مثل سمكة، لتنتج صورة برهنت على براعة مزج صورة الديجيتال بشريط الـ35 ملليمتراً. ديكور عادل المغربي شديد الواقعية، موسيقى تامر كروان لا تقارن بروعته في «باب الشمس»، وهند صبري هي الأفضل تمثيلاً. أما أحمد الفيشاوي، فأثبت أنّه يمتلك إمكانات معقولة عندما يخضع لسيطرة المخرج. بينما يبدو السيناريو المشترك لناصر عبد الرحمن ويسري نصر الله مائلاً إلى كفّة الأخير. باختصار، الفيلم لا تكفي مشاهدته مرة واحدة.
أمّا مسألة التمويل، فليس ليس لدى يسري أيّ أوهام بشأنها، ولا يضع نفسه في موقف الدفاع عن تمويل أفلامه من مؤسسات أوروبية. يردّد دوماً بأنّ مشكلة «التمويل المشروط» لا تنطبق سوى على المنتج العربي لا الغربي. «المنتج العربي هو الذي يحمل أجندة تمويل ليس لها أبعاد ثقافية. إنما تتلخص في ضرورة تحقيق أكبر عائد ممكن في أقصر فترة ممكنة. هذه المتطلبات التي يفرضها الممول العربي أسوأ من أي شروط قد يطلبها الأوروبيون».
ومثل أستاذه يوسف شاهين، أبحر المخرج ذو الأصول الأرستقراطية شمالاً صوب فرنسا. وبعد سنوات من العمل مع الفرنسيين، تلقّى صدمة كبيرة بانتحار أمبير بلزان المنتج الفرنسي الشهير، الذي شارك في إنتاج ثلاثة أفلام روائية طويلة، من أصل أربعة حققها يسري قبل «جنينة الأسماك»: «مرسيدس» و«المدينة» و«باب الشمس». بعد رحيل بلزان، نجح المخرج المصري في أن يحصل من جديد على دعم جهات أوروبية تلفزيونية وثقافية، وجاء تمويل «جنينة الأسماك» مصرياً (مصر العالمية) ـــ ألمانياً ـــ فرنسياً مشتركاً.
الأيام المقبلة ستقول لنا كيف استقبل «جنينة الأسماك» من جانب النقاد في مصر. أما على مستوى شباك التذاكر، فيسري الذي اعتاد أن يغرد خارج السرب منذ «سرقات صيفية» وصولاً إلى «باب الشمس»، يواجه اليوم سوقاً سينمائية تغيّرت معادلاتها، إذ خرجت لتوها من نفق الكوميديا النظيفة... فهل أصبحت أكثر استعداداً لتقبّل تجارب جديدة ومغايرة للسائد؟