strong>نجوان درويش
• ستّون محطّة على جلجلة الانتظار الفلسطيني

ينتمي إلى جيل جديد من الفنّانين الفلسطينيين. ولد في مخيّم رفح، و«علق» في باريس حيث برز على الساحة التشكيليّة. Standby معرضه الجديد الذي ينطلق بعد أيام في ولاية جورجيا الأميركيّة، جزء من مشروع يؤرّخ للنكبة بلغة ذاتية

قد تلخّص تجربة هاني زعرب حكاية الجيل الأخير من الفنّانين التشكيليين في فلسطين: سواء أكانت تجربة حياتية لجيل أبصر النور أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، فيما الاحتلال يطبق على الأنفاس، أم تجربة فنية تعارك اللوحة أو تحاول تجاوز القوالب التعبيرية نحو أشكال وصيغ جديدة.
ولد هاني في مخيم رفح في غزة عام 1976 من أسرة لاجئة، وأقام في رام الله، خلال سنوات ما بعد أوسلو، معايشاً ما طرأ عليها من تحوّلات جعلتها تبدو «العاصمة الثقافية»! حين غادرها عام 2006 لإقامة فنّية في فرنسا، لم يكن يعرف أنّه سيغادرها بلا رجعة قريبة.
وصل هاني إلى رام الله بعد تخرّجه من كلية الفنون في جامعة النجاح في نابلس. وخلال سنوات قليلة، صار من أبرز فناني جيله، وأخذت أعماله تحظى بتقدير، وتحقّق إقبالاً من مقتني اللوحات. إقبال، سرعان ما ظهر في المزادات عبر الأسعار غير المعهودة التي بلغتها لوحاته بالنسبة إلى فنّان فلسطيني من جيله.
على رغم «نجاحه» في رام الله، لا ينظر هاني بعين الرضا إلى حياته فيها. يتذكّر الحصار وأجواءه الضيقة و«ذهنية الغيتو» التي تنشأ عنه وانتظار كل شيء تقريباً... حتى أسطوانات الموسيقى مع القادمين من الخارج، التي كانت خبزه الآخر في حصار كان يبدو له بلا مخرج.
وها هو يعيش الآن تجربة المنفى أيضاً في باريس التي «عَلِق» في فخّها، إذ لم يتمكّن من العودة بسبب وقف الإسرائيليين «التنسيق» مع «الحكومة الفلسطينية» بعد فوز «حماس» في الانتخابات، وما استتبع ذلك من حصار إضافي طاول مئات آلاف الفلسطينيين الذين علقوا ــــ بطريقة أو بأخرى ــــ بين أمكنة مختلفة تبدو «غزة» اسماً حركياً لها! هكذا أنهى الفنان الشاب مدة «الإقامة الفنّية» في «المدينة العالمية للفنون»، ليجد نفسه «عالقاً» في «مدينة الأنوار». وبفضل موهبته، تمكّن من الاستمرار بدون أن يضطر إلى مزاولة أي عمل غير الرسم.
في باريس، أقام ثلاثة معارض شخصية في فترة قصيرة نسبياً. وإن كان أوّلها «مَخرج» أقيم في «غاليري المدينة العالمية للفنون» عام 2006، فقد أقام المعرضين الآخرين في عام 2007: «الحاجز» في «غاليري أوروبيا»، و«حرب البنانير» (La guerre des billes) في «غاليري كرو للفنون الجميلة». في معرضه الشخصي الجديد «ستاندباي» (Standby) الذي وصل إلى أميركا، يقدّم زعرب تجربته التي تتداخل مع تجربة منطقة بأسرها، وحال قضية على لائحة الانتظار أو في حالة Standby كما سمّاها. وقد شاءت «المصادفات» أن يعيش المعرض ذاته حالة «الانتظار» بعدما أدى إضراب عمّال الشحن في باريس إلى عدم وصول اللوحات في موعد الافتتاح إلى غاليري Wertz Contemporary في مدينة أتلنتا في ولاية جورجيا. فما كان من الغاليري إلا أن علّقت لوحات أخرى ووضعت معرض زعرب على قائمة الـ«ستاندباي»! إلى أن حُدِّد 15 كانون الثاني (يناير) الجاري موعداً جديداً للافتتاح.
«حين عرفتُ أنّ مؤتمر أنابوليس سيتزامن مع افتتاح معرضي تشاءمت. وعرفت أنّ هذا المعرض لن يمر على خير» يقول هاني مستعيداً الأجواء الكئيبة التي لقيها افتتاح ذلك «المؤتمر»، إذ شعر مثل كثيرين بأنّ أي «حلّ» ممكن سيكون دائماً على حساب «ما تبقّى» من قضيّة فلسطين.
«ستاندباي»، وهو التعبير المستعمل في لغة النقل الجوّي الطيران، حين يكون المسافر على لائحة الانتظار/ الاحتياط، أي إن سفره معلّق حتى إشعار آخر. وفي المعرض يبدو «وقوف» الفنان متداخلاً مع الوقوف الفلسطيني الطويل في طوابير اللجوء ـــ وما يتخلّلها من ضجر وطني ومساومات ــــ والانتظار الأعمق الأساسي الذي هو انتظار «العودة».
أنجز زعرب 60 لوحة (بعدد سنين النكبة)، يجلس فيها شخص واحد في وضعيات وتشظّيات انتظار مختلفة، وفي حالات متفاوتة. تتيحها التعبيرية التجريدية التي تنضوي تحتها تجربة الفنان، وتتيحها كذلك علاقة التجاور التي ينشئها بين اللوحات. و«ستاندباي» هو جزء من مشروع واحد مؤلف من ستين لوحة، بطول 60 متراً وعرض 120سنتيمتراً، سيعرض كاملاً في خريف 2008. واللوحات التي يعرضها حالياً في «غاليري ورتز كونتمبُرري» هي جزء من السلسلة التي هي قيد العمل الآن. أما المواد المستعملة فهي الأكريليك، والأحبار، والقار (الزفت)، وأتربة اللون (البيغمانت). وإن كان زعرب، على المستوى الأسلوبي، قد نحا في معرضيه «مَخرَج» و«الحاجز» نحو تجريد أبعدَ التشخيص من لوحته؛ فهو سرعان ما عاد إلى شيء من التشخيص الذي سبق أن رافق أعمال فترته الأخيرة في رام الله. وحدثت تلك العودة إلى التشخيص مع معرضه «حرب البنانير»، ليؤكدها هنا في «ستاندباي».
أما في ما يتعلق بالموضوع الجماعي أو القضية، فيبدو زعرب واعياً لطبيعة الفنّ ومدى قدرته على تمثيل قضية من القضايا أو خدمتها. لهذا لا يُسقط في لوحته ولا يحملها شيئاً لا تسمح به طبيعة الفن. لهذا فهو يشدّد على كون عمله في الأساس «انعكاسات لتجربة ذاتية خاصة، بعيداً عن أي رموز أو إسقاطات سياسية مباشرة». ومع ذلك، فهو يرى في عمله «محاولة لخلق صورة تعبيرية، من دون أي تجميل، للحالة المعقدة التي يعيشها الإنسان من شتات واحتجاز وتغيير قسري للمكان ــــ بشكلٍ مباشر أو غير مباشر ــــ في العالم بشكل عام وفي بلادي ومنطقتنا العربية بشكل خاص». ولعل «ستاندباي» تكثيف لهذه الحالة. من جهة أخرى، تبدو فكرة المقاومة لدى هاني فكرة إنسانية طبيعية من دون إملاءات إيديولوجية، وليس فيها أي قدر من الشعاراتية. ولعل مفتاحها في جملة ديستويفسكي «إن أكثر ما يروّعني ألا أكون جديراً بألمي» التي كثيراً ما يردّدها هاني. هذه الجملة أساسية في عمل الفنان، ولعل الفن في النهاية مجرد محاولة لجعل الإنسان جديراً بألمه... أو حتى جديراً بأمله حين يصير الأمل آلة تعذيب.
ومن هنا تشديد هاني زعرب على قيمة ألمه الشخصي وألم شعبه، وعدم تسامحه الصارم تجاه كل ما يتعلق بالاحتلال والهيمنة على مصائر الشعوب وكل ما يمكن أن يحطّ من إنسانية الإنسان. وينتابه شعور لا بد من أنه يخالج كثراً من الفنانين المدافعين عن قضايا وطنية أو إنسانيّة. إنهم يدركون هشاشة الفن أمام الواقع، ويعون استحالة تقديم خدمة مباشرة من خلاله. ولهذا يمضون في عملهم الفني بجدّية مفرطة، على حساب كل شيء آخر في حياتهم، لعلهم يمنحون شهادتهم ضد الظلم قوة خاصة هي قوة الفن. يقول هاني: «كما كان لفنانين كُثر هوس خاص أخرجهم من منطق جمالي سائد تمتلئ به فضاءات المتاحف العابقة بـ «البارفانات» والغبار إلى قبحٍ تعبيري مقاوم لهذا «الجمال»... من نفس ذلك المنطلق ولكوني أيضاً فناناً ينتمي إلى قضية عمرها ستون عاماً؛ فإني أطمح إلى أن يكون عملي حالة تعبير ذاتية توازي حالة المقاومة، كما يجب أن تكون».

www.hanizurob.com