خليل صويلح
«الخيميائي» يطل برأسه من جديد في المكتبة العربيّة. هذه المرّة من خلال حديث طويل أدلى به إلى صحافي إسباني، وترجمه عز الدين محمود عن دار دمشقيّة. يتناول الكاتب ــ الظاهرة سيرته المشوّشة، من شباب ضائع بين المخدرات وماركس... إلى الرواج الأدبي عن طريق كتب أشبه بـ«صيدلية روحانيات»

السيرة الراهنة للروائي البرازيلي الأكثر شهرة باولو كويلو، تقف على النقيض تماماً من صورته في مطلع شبابه. الشخص الروحاني اليوم كان مدمن مخدرات وفاشلاً، انتهى إلى مصحٍّ عقلي، ثم متشرّداً على دروب الهيبيز في حمّى أميركا الستينيات، وراديكالياً متطرفاً في مواجهة التقاليد والنظام السياسي في بلاده آنذاك: «كنتُ كالنعجة الجرباء في قطيع الأسرة، لكنني، كالمحارب الجسور، تابعت معركتي من أجل حلمي أن أصير كاتباً».
كويلو الشاب الذي رغب في أن يصبح كاتباً، قطع المسافة من ريو دي جانيرو إلى بوينس إيرس في رحلة متواصلة استمرت 48 ساعة لمقابلة كاتبه المفضّل بورخيس، من دون أن ينطق كلمة واحدة أمامه. ويعترف كويلو بأنّ روايته «الخيميائي» مكتوبة بتأثير مباشر من صاحب «كتاب الرمل».
وقد يستغرب قارئ هذا الروائي الذي شاع صيته في مختلف أنحاء العالم بوصفه كاتباً روحانياً بامتياز، أنّه مدين في تطلعاته الأولى إلى ماركس وإنغلز وتشي غيفارا، ذلك أنّه كتب روايات تدير ظهرها لكل ما هو مادي وجدلي كي ترسم دروباً قدريّة لشخصياته المعذّبة، أرواحها ومصائرها.
ويقول كويلو في حواره مع الصحافي الإسباني جان إيرياس الذي تضمّنه كتاب بعنوان «اعترافات مسافر حاج» وعرّبه عز الدين محمود عن «دار ورد» الدمشقيّة: «العلامات هي أبجدية يطورها المرء للتخاطب مع روح العالم».
هكذا سيقوده الحدس وحده إلى قدره، إذ ثمة علامة تفسّر كل خطوة من خطوات حياتنا... فكويلو الكاتب والمعلّم مخلص جداً لبعض الطقوس، ولا يخفي حقيقته. هو يعترف هنا بتجارب من ماضيه المؤلم مع السحر الأسود والطقوس الشيطانية التي انخرط فيها ذات يوم، قبل أن يجد طمأنينته في مقاربة ما هو ميتافيزيقي، ويسهل عليه أن يفسرّه على هواه. خلال الحوار معه، تلتقط رفيقة دربه كريستينا ريشة بيضاء حملها الهواء تحت المنضدة، وعندما تُسلمها لزوجها، يشرق وجه باولو، ويعلّق مبتهجاً «هذه علامة تعني ولادة كتاب جديد».
السفر والترحال عادة قديمة رافقت صاحب «إحدى عشرة دقيقة». فهو خلال تجواله في خرائط العالم، سواء عندما كان كاتباً للأغاني أو حين صار روائياً مرموقاً، كان يكتشف عن كثب ما تصنعه الحياة من قصص تستحق أن تُروى «إن التقائي بالعديد من قرائي يساعدني في التقاط نبض ومشاركة آمالي وأفكاري معهم».
ليس لدى كويلو أوهام حول الشهرة وصورة الكاتب ومشاغله الوهمية، يقول في هذا الصدد «علينا أن نجعل الأمر مفهوماً بأنّ الكاتب لم يعد أكثر أهمية من شخص يبيع جوز الهند». لهذا السبب ربما، يقضي كويلو وقتاً طويلاً على شبكة الانترنت في مخاطبة قرائه عبر موقعه الشخصي على الشبكة في حوارات مستمرة ومتشعبة، خصوصاً في ما يتعلق منها بالمسار الروحي للأشياء. «من الضروري الفهم أن مسارنا الروحي يجب أن يكون بحثاً عن المسؤولية الفردية، لا تفويض تلك المسؤولية إلى القادة والزعماء، فالغنى يكمن في التعددية والاختلاف. وما عدا ذلك فهو فاشية». ويضيف «إن الأصولية تعود بنا إلى أسوأ عمق في ظلامية الماضي».
ويرى صاحب «فارس النور» أنّ حياته برمتها قد حكمتها، بشكل أو بآخر، الطاقة النسوية «كل النساء اللواتي مررن في حياتي كنَّ قد طرقن بالي في فتراتي العصيبة. ليمسكن بيدي ويصبرن عليّ ويجعلنني أغيّر اتجاهي الخاطئ». ويثير مسألة مهمة في هذا السياق، هي أن في داخل كل رجل منطقة أنثوية تقود إلى الكمال. هذا ما اكتشفه خلال انخراطه في طقوس«الرام» القديمة التي تبيّن أثناء ممارستها الجانب الأنثوي في الشخصية الذكورية. «من تلك التجربة استوحيت كتابي «برايدا». فهذه الشخصية هي بشكل من الأشكال المرأة التي كنت أبحث عنها داخل ذاتي».
حاول بعض أصدقاء كويلو أن يغطوا على واحد من أكثر الفصول إيلاماً في ماضي الكاتب، وهو تورّطه في المخدّرات، لكنّه في حواره مع جان إيرياس يحكي بصراحة عن هذه الحقبة من حياته. وفي المقابل، يدين الحملات الإعلانية المضادة للمخدرات بقوله «إن أسوأ ما يمكنك فعله تجاه هذه الأمور هو صبغها بصبغة شيطانية، كما لو أنها مرعبة ومنفّرة وعديمة المعنى. إن إعلاناً كهذا وفق طريقة تفكيري من شأنه أن يدفع بجيل كامل إلى أحضان المخدرات». ويوضح قائلاً «ليس صحيحاً أنّ المخدّرات مرعبة كما يقولون في حملات المكافحة، المخدّرات سيئة لأنها رائعة». ويبرر كويلو أسباب إدمانه المخدرات في فترة شبابه بقوله «لكي أتمرّد. لأنها كانت محظورة وكل ما هو محظور كان يسحرني».
بعد ثلاث زيجات فاشلة، تعرّف كويلو إلى رسامة تدعى كريستينا فتزوجها، وبدأ معها حياة جديدة، طاوياً كل ما قبلها من مغامرات، وانطلقا معاً في ترحال طويل للبحث عن معنى الحياة، وهو ما نجده في كتبه التي تشبه «صيدلية للروحانيات».
شهرة كويلو كاتباً مرموقاً ظلت في دائرة القراء العاديين، إذ يرى معظم نقاد رواياته أنّ ما يكتبه يقع في خانة الإرشادات الروحية، لكن كويلو يدافع عن بساطته باعتبارها أداة للوصول إلى جميع القراء، ويعتقد أنّ كتبه يجب أن توضع على رفوف الفلسفة أو الأدب في المكتبات. يقول مبرراً نمط كتاباته «لا أعتقد بأنّ هناك طريقة واحدة صحيحة للكتابة. لكل من الكتّاب شخصيته وخصوصياته وكلٌُّ يكتب للقارئ الخاص به».
ومهما يكن من أمر، إذا أحببنا باولو كويلو بشغف، أو اعتبرناه مجرّد «بائع جوز الهند» كما يقترح بنفسه، فإنّه يبقى في المصاف الأخير، كاتباً مثيراً للجدل والمشاعر الحادة، وقادراً على إيقاظ الحس الضائع تجاه الغموض والسحر، متغلباً في نهاية المطاف، على الرتابة والعجز في أحضان مجتمع «مؤتمت»
ومضجر.