بيار أبي صعب
منذ المراهقة الأولى، حين يبدأ المرء بالخروج من غيتواته الموروثة على اختلافها (الحيّ، المنطقة، الطائفة والعصبيّة المحليّة...) إلى العالم الأوسع، كنا كلّما تعرّفنا بشخص آت من سوريا بدأ الحديث بيننا عن فيروز. في بيروت أولاً، في أوساط المعارضين الذين صاروا إخوة ورفاقاً، ثم في باريس ولندن ومختلف المدن العربيّة والمناسبات الثقافيّة. نادراً ما التقينا جاراً من سوريا، إلا انطلق التواصل بيننا من «السيّدة» إيّاها، صوتها وأغنياتها وشخصياتها الرحبانيّة.
كان في الأمر مفارقة مثيرة: من جهة، أنت الذي مللت هذا الإرث الخانق، وضقت ذرعاً بالضيعة وفولكلورها، بتلك النظرة الطوباويّة والساذجة إلى العالم، بالوطن المنزّه والغيبي (صخرة سعيد عقل المعلّقة بالنجم)، بالشعر المنحوت وقوافيه المكرّرة، بالحب الكريستالي البارد، المجرّد من أي شبق ــــــ كما هي صورة لبنان الرحبانيّ، أو كما تراءت للشاب الثائر الذي كنتَه، وجاء زياد الرهيب ليعزّزها آنذاك باسكتشه الإذاعيالشهير: «بحبّك يا لبنان»! ومن الجهة الأخرى، إخوة الحلم وشركاء الوجع، الهاربون من جزمة العسكر، يأتون ليقولوا لكَ في بيروت: هذه فيروزنا، وهذا لبناننا. فهمنا مع الوقت أن فيروز التي كان يتردد أيّام الحرب الأهليّة أنها الرمز الوحيد الباقي لوحدة لبنان، هي أيضاً رمز لأخوّة ما، روحيّة وحقيقية، بين لبنان وسوريا. سوريا، أي أهلها وناسها الذين لا يمكن اختزالهم الى نظام سياسي، علماً بأن السياسة لم تكن يوماً بعيدة عن قصّة الحبّ الغريبة تلك، بين السوريين و«سفيرتنا (سفيرتهم) إلى النجوم»... هناك أيضاً الحبّ الفلسطيني لفيروز، لكنّ تلك حكاية أخرى.
اليوم، ترتفع أصوات لبنانيّة، داعية فيروز إلى عدم الذهاب إلى دمشق، حيث ينتظر الجمهور بشوق عرض مسرحيّتها «صحّ النوم» في «دار الأوبرا»، مساء الثامن والعشرين من الشهر الجاري، في إطار برنامج ضخم يواكب إعلان دمشق «عاصمة الثقافة العربيّة للعام ٢٠٠٨». الدعوة اللبنانيّة إلى المقاطعة التي نقلتها بلمحة بصر مجلّة Courrier International الفرنسيّة، هي باسم الحريّة طبعاً، وتحت راية معارضة النظام السوري. لكنّ هذا الموقف، الساذج في أفضل الحالات، إذ نفترض أنّه يستند إلى نيات (ديموقراطيّة) طيبة، فيه افتراء على فيروز أولاً، من خلال زجّها في لعبة ابتزاز هي منها براء... وفيه ظلم لشعب كامل عبر السعي الى عزله، ومطالبته بدفع ثمن باهظ نيابة عن حكّامه. هل اتخذ «دعاة الحريّة العربيّة» الموقف النبيل نفسه، حين قدّمت فيروز المسرحيّة إيّاها في عمّان؟ هل تثور ثائرتهم إذا غنّت في القاهرة أو تونس أو دبي (لن نقول جدّة أو الرياض، فالأمر حتى الآن ما زال مستحيلاً هناك)...؟ أم أن ساعة الديموقراطيّة يجب أن تدقّ، وبسحر ساحر، فقط حيث يقرر الكاوبوي الأميركي، وحين يقرّر ذلك؟
بلى فيروز. اذهبي إلى دمشق. دمشق ليست تل أبيب. طالبنا إلهام المدفعي وقبله سعاد ماسي بمقاطعة الكيان الصهيوني المغتصب. لكنّك بين أهلك في دمشق، في بيتك، بغض النظر عن كلّ شيء... منذ الخمسينات صدح صوتك الصاعد عبر إذاعتها، ومسرح «معرض دمشق الدولي» ما زال يشهد على لحظات تألقك. أنت أرفع من التواطؤ مع أي جلاد، فاذهبي وغنّي للحريّة هناك، وسيسمعك ميشال كيلو ورفاقه من سجنهم... عسى إطلاق سراحهم يكون وشيكاً كي يأخذ الاحتفال بعاصمة الثقافة العربيّة معناه الحقيقي. سيسمعونك، كما يسمعك كل سجناء الرأي، والمضطهدون من أجل قناعاتهم ومبادئهم، في ديار العرب جمعاء، وليس فقط في سوريا.
اذهبي وغنّي للناس الذين يحبّونك، عينهم على لبنان وهم يحلمون بغد أفضل. احملي لهم سلاماً من بلدك الجريح الذي قهر البرابرة صيف ٢٠٠٦، لأوّل مرّة منذ نكبة فلسطين. وبشرّيهم بالمجتمع المدني، وبالديموقراطيّة التي تسعى إليها النخبة الشجاعة المستنيرة هناك (وفي المنافي)، خطوة خطوة، بتضحياتها ووعيها وحسّ وطني مترسّخ يمنعها من المقامرة على بلادها، على تعريض وطنها (ودول الجوار) للنحر والتفتّت، كما يحصل للأسف الشديد في العراق.
ارتدي ملابس قرنفل، بطلة «صحّ النوم»، دعيها تسرق ختم الحاكم المستبد لتعيد إلى المواطنين حقوقهم الضائعة. دعيها تردّد: «يا مولانا الوالي/ شفت الأهالي ناطرين/ واقفين، ناطرين/ حاملين بيوتن بإيديهم/ جرّحني صريخ ولادن/ وشفتك نايم يا مولانا...». سيسمعك السوريّون جيّداً، كما سمعك الفلسطينيّون والأردنيّون واللبنانيّون... فتحت سماء دمشق، ومع أهلها فقط، يمكن اختراع «الربيع» الآتي لا محالة...