نوال العلي
الكتابة عن الحرب بعد كل هذه السنوات، وإحياء الألم الذي كان يأكل من لحم الحياة، تشبه مشرطاً يحزّ الروح كي لا تنسى، وليبقى الجرح ماثلاً يُشهَر في وجه الوطن كهويةٍ قديمةٍ آن لها أن تتغيّر. لم تكن ماريا شختورة تقدّم فقط شهادتها الميدانية عن الحرب، حين كتبت ــــ بين 1977 و1984 ــــ مجموعة المقالات التي تعيد نشرها اليوم في كتاب Mémoires de Survie (يوميّات البقاء). بل كانت همّها الأوّل والملحّ، أن تضع الجميع أمام الحقيقة الفجّة المؤلمة التي تنضح بها صور الحرب والناس والبيوت والشوارع... هذه الصور المأساوية، تعيد أيضاً نشرها في الكتاب عينه، الصادر بالفرنسيّة عن دار L’Orient Le Jour، والذي تقدمه غداً للجمهور البيروتي خلال حفلة توقيع.
كتاب شختورة الجديد، عبارة إذاً عن مختارات من مقالات كتبتها الصحافية اللبنانية تحت هدير القنابل، متنقلةً في مختلف أنحاء بيروت لنقل المصير التراجيدي والتفاصيل اليومية للبنانيين في عزّ الحرب. وقد أرفقته بصور عبّرت خير تعبير عن يوميّات حزينة لمواطنين غارقين في دوامة الجنون والعنف. لماذا تعيد نشره الآن؟ صرخة تحذير إلى مواطنيها في هذه المرحلة المفتوح على كل الاحتمالات؟
فعل التذكّر يبدأ من غلاف الكتاب (الصورة لجوزيف فضول)، حيث مجموعة أطفال وامرأتان إحداهما شابة وأخرى عجوز لا تختلفان عن بعضهما كثيراً: لقد كانتا تحرسان الخوف الذي تحوّل تجارةً رائجةً تلك السنوات كما تُبيّن شختورة في إحدى مقالاتها. هذه الحقيقة وغيرها كتبتها شختورة في مقالاتها بعدما تلمّست عن كثب الجوع والدهشة المفقودة والبيوت التي هُدمت والملاجئ التي تحولت بيوتاً.
في مقالة أخرى مزيّلة بصورة تظهر عبارة «الجدار الطيب يرحب بكم»، تحكي شختورة عن الجنوب، هناك حيث «الفقر والجهل لهما حكاية في ظلّ الحرب». هذه المقالة التي جاءت بعنوان «جنوب لبنان يُحتضر» كتبت شختورة عن هذه البقعة التي تُركت فريسة الإهمال، وكيف كان الإسرائيليون يفتحون الحدود أمام الجنوبيين للتسوّق والسياحة ولمن يحتاج الدواء والمعالجة، وخصوصاً أنّ أقرب مستشفى له في تلك الفترة كانت تبعد خمسين كيلومتراً.
في الشوارع المدهوسة بالدبابات، والموثقة إلى العراء الجديد الذي وسم بيروت، تتجوّل شختورة خلال الحرب كأنها تصارع المحو، فتختار أسماء الأماكن جزءاً من عناوين مقالاتها: الروشة أولاً حيث هناك السماكون وباعة الدواجن وتجار الأحذية إلى جانب جيرانهم باعة مستحضرات التجميل، وهناك محال الملابس والأقمشة وكذلك المطاعم والبارات والدكاكين، وهناك أيضاً عصافير في أقفاصها، لأنّ للحرية حدوداً حتى بالنسبة إلى العصافير كما هي حال تجّار المنطقة.
بمثل هذه الحميمية، ترصد الكاتبة مناطق مثل خلدة والسوديكو وعين الرمانة وبدارو وشارع المتنبي وعين المريسة والشياح وتلاحق اللبنانيين إلى الآخر... إلى «وطنهم الجديد» في قبرص. وسواء أكانوا في مطار لارنكا أم على متن باخرة Boat People في مرفأ جونيه، ترى شختورة أنّ هذا الهروب من وطن مؤجل وسط إجراءات معقّدة ومتعبة عبارةٌ عن معارك صغيرة يخوضها أناس لا يريدون سوى حياة عادية، فيها كل ما هو يومي ومشروع، فيما الطريق إليها يبدأ من تأشيرة دخول وتذكرة سفر.
كتابة شختورة هي كتابة الإنسان المتورط في آلام لبنان، بمختلف شرائحه، كتابة تبلغ أعلى درجات إنسانيتها. إذ إنّها اختارت الكتابة عن الناس، ومخاوفهم وتشرّدهم والتحدّث عن المكان وفقدانه وتغيّره والحنين إليه. تلك هي مفردات الكاتبة المتخصّصة في علم الاجتماع وتلك هي خيوط غزلها. ليس ثمة محاربون ولا أسلحة في مقالاتها. ليس هذا ما أرادته أصلاً. هي أرادت أن تكون شاهداً وشريكاً في الحزن اليومي والحدود والمنفى والحقائب التي انتظرت طويلاً في المطارات مع أصحابها العزل والأطفال الذين تعرّف إليهم الألم باكراً. شختورة كتبت واقع الحرب لحظة حدوثها لتقول كيف تسرّبت إلى الداخل وأغرقت المكان وأهله في صراع حقيقي للنجاة والعيش والصراع للبقاء أحياءً أطول مدّة ممكنة.
هل كانت خائفة وهي تتجول في لبنان رافضة أن تعيش في «غيتو»؟ تردّ: «بالطبع كنت خائفة جداً. وحيدة دائماً، أرتدي الجينز وأتسلح بالكاميرا والدفتر والقلم، كنت مصدر ريبة وشبهة في كلا شطري بيروت، وغالباً ما تعرّضت للمضايقات من مختلف الأطراف». وتتساءل شختورة في مقدّمة كتابها: «لماذا أجمع هذه المقالات؟ هل لأنّ من واجبنا توثيق الذاكرة كي لا ننسى؟ هل هي استعادة دروس الحرب على التراب اللبناني؟ هل لتجنيب الجيل الجديد أخطاء الماضي؟ هل لأن صفحة جديدة من التاريخ اللبناني طويت للتو؟» وتجيب: «ربما لهذه الأسباب كلها؟».
«يوميّات البقاء» حازت مقالاته جائزة نقابة الصحافة في فرنسا (1989). وهذا المساء موعد الجمهور مع مؤلّفته، الأستاذة في «كلية الآداب والعلوم الإنسانية» ــــ جامعة القديس يوسف، في فيلاّ عودة حيث تقام حفلة توقيع.

السادسة من مساء اليوم ــــ فيلا عودة، قرب مبنى «صوفيل» (بيروت) : 01،331600

***

«سؤال المواطنة في لبنان» هو عنوان الندوة التي يقيمها «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» اليوم في قاعة المجلس (شارع المزرعة ــــ بيروت). ويشارك في هذا اللقاء الذي يديره عضو الهيئة الإدارية في المجلس إبراهيم حيدر، كل من الدكتور بطرس لبكي وأحمد بعلبكي : 01,815519