strong> نجوان درويش
بعض من شاهدوا مؤتمر أنابوليس على التلفزيون وسهروا مع أخبار وخطابات تخلو من الإثارة، كان عليهم أن يبكّروا في اليوم التالي لحضور مؤتمر صحافي للإعلان عن «بدء التحضيرات لاحتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية عام 2009». هكذا، تَحلّق أعضاء في «اللجنة التحضيرية» حول طاولة مستطيلة في قاعة «المسرح الوطني الفلسطيني» في القدس، بينهم مطران القدس عطا الله حنا (ليس عضواً في اللجنة التحضيرية)، ووراءهم ملصق عن الفعالية وروح «إيجابية» رغم كل شيء. في القاعة أيضاً، كانت وجوه مألوفة لممثّلين عن القنصليات ومؤسسات التمويل الأجنبية العاملة في القدس جرت دعوتهم أيضاً للاستماع.
واستغلّ أحد أعضاء اللجنة المناسبة «لتهنئة» أبو مازن على خطابه في أنابوليس، وعلى تمسّكه بالثوابت الوطنية! أما المطران عطا الله حنا، فأثار نقطتين أساسيتين يُخشى منهما في مسألة «القدس عاصمة للثقافة العربية» وهي تحت الاحتلال. إذ نبّه إلى ضرورة «عدم استغلال هذه التظاهرة للتطبيع مع الاحتلال. لا نريد للعرب أن يأتوا بتأشيرات إسرائيلية». فيما شدّد داخلياً على أنّ «رسالة القدس هي رسالة الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب الفلسطيني كافةً وتقوية الصف الوطني». لكنّ كلام المطران، على أهميته، يبقى بلا ضمانة، ما دامت اللجنة تابعة للسياسة الرسمية للسلطة غير المتشددة في التطبيع (رفض التطبيع مطلب شعبي أساساً). من جهة أخرى، يبدو أنّ الفعالية تقتصر على لون واحد لمصلحة حركة فتح في صراعها الحالي مع حركة حماس!
وإذا تجاوزنا النقد الموجّه للجنة، والمتعلق باقتصارها على لون سياسي واحد، واستثنائها لفلسطينيي الشتات وفلسطين المحتلة عام 1948 من عضويتها، فإنّه يصعب تجاوز حقيقة أنّ التصوّر الذي عرضته للفعالية يفتقر إلى الدراسة والخبرة الكافيتين. ولعل غياب التخصّص هو الأمر الجوهري في هذا الخلل، ومردّه تركيبة اللجنة التحضيرية. إذ يُخلط بين غايتين ـــــ حتى الآن ـــــ يبدو أنّ أيّاً منهما لم تحقق هدفها. فلا هي لجنة اعتبارية تحظى بإجماع وطني (إذا كان المقصود منها لجنة اعتبارية)، ولا هي لجنة متخصّصة تستطيع تنفيذ المهمة إذا كان المقصود منها لجنة خبراء، سواء على مستوى الرؤية والتخطيط أو الإدارة. «الخطة» التي عُرضت هي، بتعبير اللجنة، «خطة أوّلية قابلة للتطوير»... وما قُدّم فعلاً، هو رؤوس أقلام ومبادئ عامة. وهي تقتصر على بديهيّات مثل «ضرورة أن تكون الفعاليات مشرّفة فنياً، وأن يجري التركيز على القدس، وسيُنقل الحدث إلى مناطق أخرى في فلسطين، الضفة وغزة».
نلاحظ هنا أنّ فلسطين المحتلة عام 1948 لا يشملها الحدث، حتّى الآن! وأن التركيز «سيكون على جانبين أساسيين: استنهاض الطاقات واستدامة الحدث». وذهبت اللجنة في سرد يستعرض كلّ أنواع المهرجانات الممكنة، مع أمور من نوع «تأسيس موقع إلكتروني وإجراء مسابقات وتأسيس مكتبة عامة»! وهي بالفعل مسائل بإمكان أي عابر سبيل مهتم اقتراحها. وأبرز ما يؤخذ على هذه «الخطة» هو عدم دراستها حقيقة ما هو متوافر في القدس، من مؤسسات وبنى ثقافية وتقويم عملها، ودراسة الواقع الثقافي للمدينة على الأقل منذ الاحتلال الأول عام 1948... وصولاً إلى ضرورة وربط سياسة البرمجة لـ 2009 بالتصوّر الفلسطيني لمستقبل المدينة المحتلة.
أكثر ما نخشاه أن يكون هذا الأداء الضعيف استمراراً لحالة عجز فلسطيني تاريخي، أو ما كان يسمّيه إدوارد سعيد «عدم الكفاءة الجماعي» في ما يتعلق بقضية القدس. إذ نشر المفكر الراحل في آب (أغسطس) 1995 مقالاً بعنوان «القدس: رواية سلب الحق العربي»، قدّم فيه معالجة قاسية ومتينة لمسألة عروبة القدس. يقول: «أعتقد بأنّ هناك حاجة لأن نقول ونكرر، إنّ الحق العربي الفلسطيني في القدس، القائم على أسس من الحضارة والتاريخ، حق ثابت يجب السعي لاسترجاعه بجدّ واجتهاد. لكنّني أرى أنّه ما من سبيل للقيام بهذه المهمة، ما لم نبدأ بالفهم الدقيق والموضوعي لتاريخ خسارتنا المتدرّجة للقدس. عندها فقط يمكننا فهم الشروط الضرورية للسعي في تحقيق مطلبنا مع بعض الأمل بالنجاح»!
لكن حين سألنا «رئيس ديوان الرئاسة» رفيق الحسيني عن استثناء فلسطينيي الـ 48 والشتات من عضوية لجنة القدس 2009، وعدم الإفادة من النقد الذي وُجّه إلى اللجنة على نطاق واسع، أجاب ببعض العصبية: «محمود درويش من الـ48! وهو رئيس اللجنة وهو ليس من القدس». وإذا كانت اللجنة تصرّ، بين حين وآخر، على كون درويش رئيسها، رغم أنّه رفض ذلك بلباقة واعتذر عن رئاسة اللجنة... فإن جواب الحسيني أقرب إلى المناورة التي تعفي من مواجهة هذه الثغرة في بنية المشروع... علماً بأنّ الدكتورة حنان عشرواي، سرعان ما تقدمت هي الأخرى باستقالتها!