إسماعيل طلاي
العلاقات الشائكة بين الجزائر و”الجزيرة” عادت إلى سابق عهدها من التوتّر. هذه المرّة وصلت المواجهة إلى قلب المحطة القطرية، والصحافيون الجزائريون يطالبون ادارتهم باعتذار رسمي. ما قصة الخلاف الذي أشعل فتيله بن لادن؟ وكيف تحوّل استفتاء حول الارهاب إلى أزمة ديبلوماسية بين بلدين عربيين؟
«الجزيرة» والجزائر: بين الاسمين تطابقٌ كبير في الأحرف. لكن بين الدولة الجزائرية والقناة القطرية علاقة عدائية قديمة متجدّدة، وحربٌ كلامية لا تكاد تسكن تارةً، حتى تنفجر مجدّداً. آخر فصول هذه الحرب، استطلاع للرأي أجراه موقع «الجزيرة.نت» أخيراً، وأثار زوبعة إعلامية وسياسية في الجزائر، كادت تفسد العلاقة بين البلدين، وامتدّ صداها إلى داخل مقرّ القناة التي تشهد سجالاً إعلامياً بين صحافيي «الجزيرة»، بين مؤيد ومعارض لاستفتاء، مضمونُه: هل تؤيد هجمات «القاعدة» على الجزائر؟ وقد مضى أسبوعان على «هجوم إعلامي» كاسح تشنّه الصحف الجزائرية، مدعومة من الأحزاب وبعض جمعيّات المجتمع المدني، على قناة «الجزيرة». وذلك، بمجرّد أن أطلق حمراوي حبيب شوقي، المدير العام للتلفزيون الجزائري ورئيس اتحاد الإذاعات والتلفزيونات العربية، الشرارة الأولى، مستنفراً الحكومة والمجتمع الجزائريين لما وصفه بضرورة «التحرّك واتخاذ الإجراءات اللازمة لردّ الاعتداء والعمل غير الأخلاقي للقناة التي تبثّ من أرض قطر ضدّ الجزائريين»، و«التنديد بالقناة التي تحوّلت إلى لسان حال تنظيم القاعدة». الأمر الذي فُهم على أنه دعوة صريحة إلى القيام باحتجاج دبلوماسي رسمي ضدّ حكومة قطر. فيما قالت أوساط جزائرية «إن حمراوي تحرّك وفق أوامر عليا، لأن القضية أثيرت في الصحف الجزائرية قبل أيام، فيما جاء تحرّك مدير التلفزيون متأخراً»... هكذا، توالت المقالات والتصريحات المندّدة بـ«الجزيرة»، حتى إن وزير التضامن جمال ولد عباس، أشار إلى أنّه استقدم تقنياً خصيصاً لإزالة قناة «الجزيرة» نهائياً عن طاقم الفضائيات العالمية في البلاد!
أمّا «الجزيرة»، فلم تشأ الرد في البداية ربما لاعتقادها بأن ما يحدث لا يعدو كونه فصلاً جديداً من الانتقادات التي اعتادتها، كلما أزعج تقرير صحافي نظاماً عربياً. لكن المفاجأة التي لم ينتظرها أحد، كانت في تعرّض المحطة لموجة من الانتقادات الداخلية القوية. إذ لم يتوانَ الجزائريون العاملون فيها، وآخرون من جنسيات مختلفة، عن إعلان تذمرهم واستنكارهم لنشر استفتاء، «يسأل القراء عن مدى دعمهم لقتل الأبرياء»!
وعلمت «الأخبار» أن وفوداً من الصحافيين (وعلى رأسهم جزائريون)، زاروا مكتب رئيس تحرير القناة أحمد الشيخ، مستفسرين عن خلفية السماح بتمرير الاستفتاء. وطالب بعضهم بضرورة اعتذار القناة للجزائريين الذين بالكاد جفّفوا دموعهم بعد أيام من مصرع 60 شخصاً في تفجيرين إرهابيين، هزّا العاصمة الجزائرية. وفيما تواصلت الضغوط من الجزائر، لم تُقدم القناة على أي خطوة، باستثناء سحب الاستفتاء فوراً. وقد حاولت «الأخبار» استطلاع موقف رئيس تحرير المحطة أحمد الشيخ، لكنه ردّ بالقول: «قررنا ألّا نصرّح بشيء، ونحن ممنوعون من التحدث في الموضوع»! فيما باءت كل محاولات الاتصال بالمدير العام للشبكة وضّاح خنفر، بالفشل.
ولعلّ «الجزيرة» كانت تفضّل ممارسة الحوار داخلياً فقط: إذ سمحت للصحافيين بكتابة آرائهم في شأن الموضوع بمنتهى الصراحة في موقع حواري داخلي، يسمّى «توك باك». وهو لم يتضمّن ردود فعل مناوئة للاستفتاء فحسب، إنما انبرت أصوات أخرى للدفاع عن صحافيي «الجزيرة.نت»، بعدما شعروا بأنهم عرضة لهجوم إعلامي مكثف. وقد آثر أحمد الشيخ منطق «حوار تحت الطلب»، فخرج عن صمته ليتحدث إلى موقع «الجزيرة. توك» عن الضجة الإعلامية، تزامناً مع رفضه الانفتاح على وسائل إعلام أخرى! وقال أحمد الشيخ للموقع: «أؤكد أن التصويت الذي نُشر في «الجزيرة. نت» جاء نتيجة خطأ بعض الموظفين الذين نشروه من دون العودة إلى إدارة التحرير... إذ لسنا نحن من يطرح مثل هذا السؤال، لأننا نعتقد أن ما يُفرح الجزائريين يُفرحنا، وما يؤلمهم حتماً يؤلمنا، ولا يمكننا أن نتعاطف مع من يقتل الأبرياء. وأؤكد في الوقت ذاته أن الخطأ لم يكن مقصوداً من الذين أعدّوا صياغة السؤال، ولم يكونوا موفّقين... وقد جرت مساءلتهم ومحاسبتهم وفقاً لقواعد العمل في القناة. لذا، سُحب الاستفتاء، وهذا اعتراف منّا بالخطأ الذي وقعنا فيه». كما لم يفوّت الفرصة ليردّ على مدير التلفزيون الجزائري، قائلاً: «هذا كلام غير علمي وغير مسؤول، لا نقبله بتاتاً. فـ «الجزيرة» ليست ناطقاً باسم أحد، سواء كان تنظيماً أو دولة أو تياراً سياسياً. ولا ينبغي لها أن تكون كذلك».
أمّا عبد العزيز آل محمود، رئيس تحرير موقع «الجزيرة. نت» سابقاً، فينظر إلى القضية من زاوية مغايرة: «يجب أن نفهم أولاً أن الإعلام ليس مقدّساً. إنما عبارة عن اجتهادات، في العناوين وصياغة الأخبار... إن الاستفتاء ــــــ موضوع الخلاف بين الجزائر والقناة ـــــــ عبارة عن اجتهاد صحافيين. لذا، قد لا تكون لديهم أي نية في مهاجمة الجزائر. وما حدث أنّ أنصار «القاعدة» انهالوا على التصويت، وقلبوا النتائج لمصلحتهم. في المقابل، فإن الغالبية التي لا تؤيد تنظيم «القاعدة» لم تُعر السؤال اهتماماً كبيراً. وعندما انقلبت نتائج التصويت بشكل غير متوقع من الجميع، بدأت الأصوات تتعالى هنا وهناك... قد يكون هناك خطأ في صياغة سؤال الاستفتاء، لكنّ النية سليمة. ولو كانت النتيجة 80 في المئة ضد القاعدة، لما حدثت كل هذه الضجة».
أخيراً، يبدو أنّ هذه الضجة التي كادت تفجّر أزمة دبلوماسية بين الجزائر وقطر، انتهت على الأقل على المستوى الرسمي الجزائري. إذ أكد وزير الإعلام والناطق الرسمي باسم الحكومة الجزائرية عبد العزيز بوكرزازة، عقب اجتماع مجلس الحكومة أول من أمس، أنّ ما أقدمت عليه قناة الجزيرة «لم يكن يستدعي تقديم احتجاج رسمي لدى دولة قطر (...)، فالأمر يتعلّق بوسيلة إعلامية لا بحكومة، ونقدّر أن الرد القوي الصادر عن وسائل الإعلام الجزائرية والمجتمع المدني والأحزاب السياسية كان كافياً».
لكن الموقف الرسمي الجزائري لم يمنع بعضهم من التوقع بأن تشغل القضية جانباً من محادثات أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني مع نظيره الجزائري عبد العزيز بو تفليقة، في الزيارة التي سيقوم بها هذا الأخير إلى الدوحة يوم 20 كانون الثاني (يناير) المقبل، وخصوصاً أنّ بو تفليقة يعدّ من أشد الممتعضين من خط القناة، إذ أوقفها شخصياً عام 1999، حينما قطعت حواراً مباشراً معه لتنقل بثاً حيّاً من الحرب على العراق. ورغم إعادة فتح المكتب لاحقاً، عادت السلطات الجزائرية إلى إغلاقه على خلفية تقرير عن المفقودين في الجزائر، انتهى بنشر صورة للعلم الجزائري ممزّقاً.

ينشر هذا المقال تزامناً مع صحيفة
«العرب» القطرية