القاهرة ـــ محمد محمود
“احتفت” الإذاعة المصرية على طريقتها بالذكرى الثانية والثلاثين لرحيل «كوكب الشرق»: لقد قررت إلغاء ساعة البثّ اليوميّة المخصصة لأغنياتها، لأنّها صارت “بائدة”!

بعد أسابيع قليلة من قيام ثورة يوليو عام 1952، لاحظت أم كلثوم أنّ أغانيها لم تعدّ تبثّ على أثير الإذاعة المصرية. وعندما سعت إلى معرفة السبب، علمت أن ضابطاً في الجيش قرر منعها، لأنها تنتمي إلى العهد البائد، فيما كان هدف الثورة إسقاط حكم أسرة محمد علي وملكها فاروق. لم تجد “كوكب الشرق” سبيلاً إلا الرئيس جمال عبد الناصر. كيف لا، وهو الذي اعتاد سماع أغانيها وعشق صوتها؟ اتصل “الريس” بالضابط، صاحب القرار، وأخبره بأنه أعطى أوامر لهدم الأهرامات، “لأنها أيضاً من العهد البائد”... هكذا، نُسف القرار، وعاد صوت “الست” يتردد في الأثير. هذه القصة التي شددّ عليها مسلسل “أم كلثوم” تبدو اليوم مفارقة في الذكرى 32 لرحيل كوكب الشرق. إذ آثرت الإذاعة المصرية الخاصة بالأغاني، الاحتفاء بالمناسبة على طريقتها، بعدما أصدرت مديرة الإذاعة ناريمان الجوهري، “فرماناً” يقضي بإلغاء الفقرات الثابتة للأربعة الكبار: أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش. وكان لكل منهم ساعة بثّ يومية اعتادها المستمعون، إضافة إلى أغنيات متفرقة طيلة اليوم.
قوبل القرار بهجوم عنيف من الصحافة التي اتهمت الجوهري بتحويل المحطة الرصينة إلى إذاعة تجارية تنافس راديو “نجوم أف أم” الذي يستحوذ على الإعلانات. لكن الانتقادات زادت إدارة الإذاعة تمسكاً بالقرار. وأعلنت الجوهري أن ذلك سيتيح فرصة الظهور لأغاني نجاة ومحمد فوزي وفايزة أحمد، وستنتشر أغاني الكبار جميعهم في أوقات غير محددة، ما يبعد شبح الملل والروتين عن الإذاعة فتجذب جمهوراً جديداً.
إلا أن غياب الفترة الثابتة لأم كلثوم جاء امتداداً لرياح التغيير التي لم تعد تكرّس “أسطورة” المطربة الراحلة في الثالث من شباط (فبراير) عام 1975. قبل انطلاق إذاعة “الأغاني”، حظيت محطة “أم كلثوم” بانتشار كبير. كانت تفتتح إرسالها بثومة وتختتم بها، وتفصل بين الفقرتين أغنيات الكبار. لكن المحطة أقفلت لاحقاً، بعدما أبصرت إذاعة “الأغاني” النور. أما التلفزيون المصري فلم يعد يهتم بسهرة الخميس التي كانت مخصصة لحفلات الست، (بعدما اعتادت أن تقابل جمهورها في الخميس الأول من كل شهر أيام العزّ). وانتقلت المهمة إلى “روتانا طرب” التي تخصص يومياً ساعة من الهواء لبرنامج “عظمة يا ست”، بعدما تسربت كنوز الإعلام المصري تدريجياً إلى القنوات العربية من دون حسيب يسأل عن بائعيها وثمنها.
وإذا كان مسؤولو الإعلام قد هدموا، في خطة التطوير الجديدة، ثوابت الغناء المصري، فإن وزارة الثقافة كانت أكثر وفاءً للست. إذ أعلنت عن احتفالات تمتد ثلاث ليال، وتبدأ هذا المساء في قصر “المانسترلي” حيث تقدم الفرقة الموسيقية بقيادة سليم سحاب مقطوعات موسيقية لأم كلثوم بتوزيع أوركسترالي جديد. كما تحيي ثلاث مطربات من دار الأوبرا المصرية مجموعة من أشهر أغنيات ثومة، ثم يقدم الفنان العراقي نصير شمة عزفاً منفصلاً على العود لموسيقى أغنيتي “أهل الهوى” و“الأمل”. وفي اليوم التالي، تدور في قصر الغوري حلقة نقاش بعنوان “أم كلثوم عصر من الفن”، يتحدث فيها الكاتب محفوظ عبد الرحمن، صاحب المسلسل التلفزيوني الشهير الذي روى سيرة حياتها. وتقام في وكالة الغوري في اليوم الثالث، ندوة بعنوان “أم كلثوم كما عرفها هؤلاء”، يتحدث فيها كل من ممدوح الدسوقي، ابن شقيقتها وتوحيد رامي، ابن الشاعر أحمد رامي، والشاعر أحمد شفيق كامل الذي كتب “أنت عمري”. وبعد هدم منزلها في الزمالك، لم يعد أمام محبي أم كلثوم سوى قبرها والمتحف الذي أقامته الدولة في قصر المانسترلي، لإحياء ذكرى صاحبة “يا ظالمني”.