سعد هادي
الاحتلال الأميركي وضع العراق أمام السؤال المطروح على المنطقة كلها. من يمتلك الشرعية الحضارية للبقاء: التيارات العلمانية أم الأصولية؟ الروائي شاكر الأنباري يفكّك آليات العنف في كتابه الجديد

يرى الشاعر والروائي العراقي شاكر الأنباري في مقدمة كتابه “ثقافة ضد العنف” (معهد الدراسات الاستراتيجية ــ 2007) أنّّ كلمة “تهميش” لا تكفي لوصف طريقة تعامل القوى السياسية التي تتولى مقاليد الأمور في العراق الآن، مع المثقف الحر العقلاني. حتى إنّ كلمة تهميش ليست الكلمة المناسبة. قد تكون كلمة احتقار اكثر ملاءمة، فالجميع ينظر الى الثقافة بازدراء، إنّها في الوقت الحاضر بلا دور، وأغلب القوى السياسية ما زالت تعيش في ذهنية المعارضة السياسية لزمن مضى. وما يهمّها هو التجييش ضمن نوازع وبرامج وشعارات طائفية ودينية وقومية. بل إنّ الحديث، على حد تعبيره، عن عهد ذهبي للثقافة العراقية صار يقابل بنفور وشكّ ما دامت العهود السابقة اختُصرت الى عهود طغيان وكبت وتهميش. لذلك تتصاعد الحماسة لرفض الماضي، ماضي الثقافة، وشطبه لأنّه يمثّل منطلقاً لثقافة هيمنة.
أمام ذلك كلّه، يستحيل الحديث حاضراً عن مجابهة مشاريع ظلامية وأفكار رجعية أو عقلية خرافية، لأنها هي المسيطرة على الجو السياسي والاجتماعي. وبينما سادت ثقافة السلطة لعقود، تعمّ اليوم بشكل ما ثقافة التظلّم. يرى الجميع نفسه مظلوماً، الجلاد والضحية، مدن العراق تحولت جزراً معزولة، ومدنَ طوائف. لا يمكن الحديث عن ثقافة وطنية في عهد مدن الطوائف. واذا كانت هناك التماعات مضيئة هنا وهناك، فهي تضيع في ليل البلاد الكثيف. اليوم يحاول منطق الموت أن يهيمن على الشوارع، والموت لا ينفصل كثيراً عن ثقافة الظلاميين والتكفيريين والاصوليين. إنّه عملة رائجة ومتداولة لدى كل الاطراف، الى درجة يتساءل فيها الجميع عن الجهات التي تمارس هذا القتل. من يقتل من ولماذا تُقترف عمليات التصفية بهذه البشاعة؟
يعتقد صاحب “كتاب الياسمين” أنّ ثمة جانباً وحشياً في التركيبة الموجودة في السلطة الحاكمة. هي تتلطى في ظل أحزاب تدّعي الديموقراطية وتتشدق بالدستور ونبذ العنف. بينما يشير العنف نفسه الى أزمة أخلاقية كبيرة في المجتمع، وفي الروح العراقية عموماً، أزمة تستمدّ جذورها من التقاليد والتربية، والسياسة والمعتقدات الدينية ومن تركيبة البلد الديموغرافية، وما يرافقها من احتكاكات وصدامات وشائعات وسوء فهم وأحكام مسبقة.
يرى صاحب “ليالي الكاكا” أنّ الموت لا ينبع من الأسفل أي من تركيبة المجتمع العراقي، فهي تركيبة متسامحة ومتعايشة تستنكر الموت الجماعي الذي تراه كل يوم. إنّ الموت يأتي من الأعلى، من برامج القوى السياسية التي تجرّ الطوائف ــ خفيةً وعلناً ــ الى مشاريعها المميتة. كل الميليشيات والحركات والتيارات، وأكثرها أصولي وسلفي، تطبّق شريعتها كما يحلو لها، وبالقوة وحدها. وما يستغربه الأنباري أنّ الافراد الذين يطبّقون الشريعة ليسوا متديّنين ولم يعرف عنهم أي اهتمام سابق بتطبيق الشريعة.
في المقابل، تحوَّل فرض الشريعة الى قضية سياسية وسلطوية لا علاقة لها بالدين أو التدين، تمسك بأيديولوجيا جاهزة تُرفع لافتةً للتحكّم والتوجيه والسيطرة. إذ كان معظم مطبقي الشريعة في الماضي من البعثيين أو من فدائيي صدام أو أجهزته الأمنية، وظل سلوكهم السابق على حاله مع تغيير طفيف في الشعارات.
أمام هذه اللوحة المتشائمة والسوداوية، يتساءل شاكر الأنباري: ما هو موقع المثقف والفنان تجاه ما يجري في البلد؟ وأين يكمن الموقف فيما لو قرر اتخاذ دور عبر أداته الفنية؟ إنّه يضع النصوص والرسوم والصور التي اختارها من عشرات الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية لكي تعبّر عن تطورات الواقع العراقي وتعقيداته، والظواهر التي برزت على السطح وكانت مغيبة بسبب القمع ومصادرة الحريات، والتي رصدت أيضاً ظاهرة الارهاب والعنف والاصولية وتجلياتها وعلاجها. وتتفق معظم المقالات مثلاً، على وجود خلل في هيكلية البناء الاجتماعي والبناء الروحي للفرد.
خلال السنوات التي تلت الاحتلال الاميركي والعاصفة المدمّرة التي أسقطت البعثيين، عاد المجتمع العراقي ثانية الى السؤال المطروح في المنطقة وهو: من يمتلك الشرعية الحضارية للبقاء والمواصلة؟ أهي التيارات العلمانية المتناغمة مع الحداثة والحضارة الكونية الحالية؟ أم الأصولية التي تعاني هجمة الحضارة على معاقلها وتحاول بمختلف الوسائل الدفاع عن بقائها، بما في ذلك وسيلة الانغلاق الحضاري والعيش في صومعة التحريم والمصادرة والإلغاء؟
إنّ تحول المجتمع العراقي من مجتمع “مبعّث” (نسبة إلى البعث) الى مجتمع “مؤسلم”، يطرح برأي الكاتب أمام الباحثين فرصةً هائلة لاستقراء آليات هذا التحول، وعلاقته بثنائيات من مثل الداخل والخارج والذاتي والموضوعي. إنّه مادة اولية دسمة للدراسة والبحث على رغم ما يكتنفها من دماء وآلام وأحلام محبطة.
يحاول الكتاب بأسئلته ومختاراته التي جاءت في أربعة فصول (“المقالات” و“الفنون البصرية” و“القصة” و“الشعر” تضمّن كل منها عدداً من النماذج)، يحاول تبرير ــ أو بالأحرى وصف ــ مواقف النخبة الثقافية العراقية التي تتألف من أفراد لا يجيرون لحزب ولا لطائفة ولا لشخص. هذه النخبة الشاملة التي تتألف من نخب فرعية، لا تمتلك سلاحاً لتغيير الواقع ولا تستطيع صنع عبوة ناسفة، ولا تجرؤ على توجيه فوهة مسدس الى رأس حتى لو كان مجرماً. كل ما تستطيع فعله هذه النخبة احتجاجاً على ما يجري في الوطن، هو صرخة احتجاج، حسب حجم الفم الذي يطلقها. فضمن وضع معقد ومتداخل ومتراكب كالوضع العراقي، يصبح حتى فعل الكتابة، أي كتابة، فعلاً ينمّ عن حياة وعن مقاومة للموت والتكفير والتفتيت، تماماً كما يصبح عرض مسرحية أعجوبةً وبطولةً.