دمشق ــ سعد هادي
• عن بلاد تحترق ونسيج اجتماعي ينهار

تنطلق هذا المساء على خشبة «دوّار الشمس» في بيروت، عروض «حظر تجوال»، إحدى أنضج التجارب التي شهدها المسرح العراقي في سنواته (الدامية) الأخيرة. من خلال شخصيتين في الهامش، يبحث المؤلف والمخرج الشاب عن جذور العنف، وأسرار الفوضى التي كادت تقضي على المجتمع العراقي

كوميديا سوداء يمثّلها رجلان من قاع المدينة، يتبادلان الشتائم والذكريات والأحلام والحكايات عن موت وشيك قد يقع في أي لحظة! تلك هي مسرحية «حظر تجوال» التي يبدأ عرضها هذا المساء في بيروت، في مسرح «دوار الشمس». المسرحية التي كتبها وأخرجها مهنّد هادي، حظيت باهتمام إعلامي واسع لدى عرضها في العراق، ورآها النقاد إضافةً نوعيةً إلى التجارب المسرحية العراقية الجديدة.
وإذا كان مهند هادي قد اختار عنوانها من الحاضر العراقي، فهو أراد أيضاً أن يشير إلى ماضٍ طويل من المحرمات التي تسحق ذات الفرد في العراق، وتحدّد سلوكه وتغير باستمرار مستويات علاقته مع نفسه ومع الآخر. العنوان هنا يلخّص على حد تعبير مهند «حظر التجوال المفروض على العراق منذ قرون، المحظور دائماً هو الأكثر تأثيراً قياساً بالمسموح به». يخوض هذا الفنان الشاب في التابوات التي تعيد إنتاج الشخصية العراقية، تحرضها على العنف أو توجه سلوكها وخياراتها في مواقف محددة: «قد يكون في ذلك شيء من الإيجابية أحياناً، خصوصاً في نزعة التحدي والمغايرة التي ولّدت الكثير من عناصر ثقافتنا... لكنّه يمتلك آثاراً سلبية مدمّرة على الأمد البعيد”.
الشخصيتان في المسرحية تعيشان في حظر تجوال دائم مثل الكثير من العراقيين قبل الاحتلال وبعده. تلك هي صورة الواقع اليومي، وتلك معطياته. رجلان هامشيان (رائد محسن وسمر قحطان) في بقعة صغيرة من الأرض ينتميان إليها، ولا ينتميان اليها. تبدأ المسرحية وتنتهي وهما يرويان حكاية طويلة متعددة الفصول، عن بلاد تحترق ونسيج اجتماعي ينهار. الأول ماسح أحذية والثاني غاسل سيارات، كلاهما له علاقة بالنظافة بشكل ما. لكن أي نظافة في مدينة خربة، تحلق فيها طيور الحزن وتتناثر في فضائها أشلاء الجثث؟ حوارهما بالعامية يفصح عن مشاكلهما اليومية، أحلامهما ومخاوفهما مثلما يشير إلى صراع خفي بينهما يتطور ليكشف عن علاقتهما بالجانب السري من المدينة الذي تنعكس فيه كل خطاياها ونزواتها ونزعات الشرّ فيها.
رائد محسن الذي يمثل دور ماسح الأحذية، ممثل معروف عراقياً وعربياً يمارس التمثيل منذ أكثر من ربع قرن. بعدما تخرج من أكاديمية الفنون الجميلة، عمل مع أفضل مخرجي المسرح العراقي: الراحل عوني كرومي، عزيز خيون، قاسم محمد. أما سمر قحطان فبطل فيلم «غير صالح للعرض» الذي أخرجه العراقي عدي رشيد إلى جانب مشاركته في تمثيل أفلام قصيرة أخرى.
يشير مهند هادي إلى أنّ فكرة المسرحية ولدت بعد مشاهدته عروضاً كثيرة، تناولت الواقع العراقي بينها المسلسلات التلفزيونية المحلية. «رغم محاولتها مقاربة الواقع، تبيّن لي أنّ هذه العروض تناقش هوامش المشكلة ـــــ وهي متعددة الأبعاد ـــــ لا متنها. كذلك تعرض وجهات نظر نمطية اتُخذت بمعزل عن آراء الناس وعن اتجاهات تفكيرهم. إنّها تقدّم تلخيصاً فجّاً لما يجري. من هنا، اختمرت لديّ فكرة المسرحية فحاولت في «حظر تجوال» أن أقدّم صورةً أقرب الى الواقع بكل تناقضاته ومأساويته: شخصيتان من قاع المدينة تنتميان إلى مكان لا تريدان الانفصال عنه، على رغم الأخطار المحدقة به. إنهما مثل الكثير من العراقيين، يعيشان في حظر تجوّل دائم، في الشارع، وفي مكان العمل، وفي المنزل، قبل الاحتلال وبعده. تلك هي صورة الواقع العراقي».
ونسأله عن أدوات الكتابة، وأوّلها اللغة: «لم تقف اللغة عائقاً أمامي. حاولت التعبير من خلال ما تحفل به العامية من خصائص: البذاءات، التلميحات الذكية التي تختزن الكثير، الطرافة. وحين عُرضت المسرحية قبل أسابيع في الجزائر، لاقت قبولاً جماهيرياً. حتى أنّ أحداً لم ينتبه في سياق العرض بأي لغة يتحدّث الممثلان. وأعزو ذلك بشكل ما إلى حيوية الممثلين وقدرتهما على نقل ما أريد، كلاهما ممثل بارع ويمتلك حضوراً استثنائياً».
لكن هل تكفي شخصيتان مهمّشتان للتعبير عن الواقع؟ يجيب مهند: «أعتقد أنّ أهل الهامش أبلغ تعبيراً عن الراهن من سواهم. لقد حاولت من خلال شخصيتين معذبتين ومنسيتين أن ألخّص فوضى اجتماعية بلا حدود».
«حظر تجوال» هي المسرحية الثالثة لكاتبها ومخرجها. تجربته الأولى كان قد اقتبسها عن رواية «الحديقة» للفرنسية مارغريت دوراس، وقدّمها في قاعة المسرح الثقافي الفرنسي في دمشق منتصف عام 2003، قارئاً نص دوراس في ضوء الواقع العراقي. البشر في مسرحيته يراقبون ما يحدث بينما، يجلسون في أماكنهم ولا يتنبّهون إلى رتابة أيامهم وتكرارها. إنهم ينصاعون لأقدارهم من دون أن يفكروا في مواجهتها.
أما المسرحية الثانية لمهند هادي فكانت بعنوان «المنصة»، قدّمها بالاشتراك مع المخرجة اللبنانية بولين حداد ولم يقيض لها الانتشار بسبب اندلاع الحرب على العراق.
مهند هادي (1967) الذي يقيم منذ سنوات في دمشق يقول إن «حظر تجوال» أضافت إليه قلقاً جديداً، ونبّهته فوق أي منطقة يقف وعلى أي أرض يتحرك. وهو يفكّر بمسرحية أخرى اختار لها عنواناً موقتاً هو «ليش؟»، وتروي حكاية مجموعة من الناس ينتظرون على قارعة إحدى الطرق ويروي كل منهم حكايته قبل أن يدوي انفجار ينهي حياتهم ويشتّت أحلامهم إلى الأبد. عن هذا المشروع يقول مهنّد: «أنا دائم التفكير في صيغة جديدة لتقديم العرض. أعتقد أنّ العمل الجديد سيكون استمراراً لمنهجي في «حظر تجوال». أتمنّى أن يحمل إضافات فنية وجماليّة، فتكرار التجربة واستنساخها يقتلان الفنّ».

«حظر تجوال» ــــ دوار الشمس (الطيونة) حتّى 10 ت٢/ نوفمبر، للحجز: 01/381290