بشير صفير
• تسجيل حيّ للتريو الأسطوري في يوبيله الفضي

على مدمني الطقوس التي يحييها عازف الجاز المسكون والمثير للجدل، أن يقفزوا إلى أول متجر موسيقى لطلب My Foolish Heart ...إنّه عنوان أسطوانة جديدة للثلاثي الذي يطفئ هذا العام شموعه الـ ٢٥. جاريت على البيانو، مع جاك دوجونيت (درامز) وغاري بيكوك (كونترباص)

لا يحتاج الكلام على الموسيقي الأميركي كيث جاريت إلى مناسبة أو حدث استثنائي. هذا الاسم الكبير في عالم الموسيقى بات حدثاً قائماً بحد ذاته بالنسبة إلى عشّاق الجاز أولاً. كذلك هو يمثّل حالة خاصة تتضارب الآراء حولها في عالم الموسيقى الكلاسيكية. أما التوصيف الأكثر دلالة والأكثر اختصاراً لكيث جاريت، فهو أنّه موسيقي مكتمل، ليس مستجداً على القمة في الجاز، وما إصداراته اليوم ونشاطه، سوى تراكم يضيفه إلى شهرة بلغها منذ سنوات.
في عالم الموسيقى الكلاسيكية، أثبت جاريت براعة في التخليّ عن الحرية النسبية الخاصة بالجاز، ملتزماً بقواعد العزف الصارمة، والتقيّد بالعمل الموسيقي مثلما كُتب بالأصل. أضف إلى ذلك تجربة عابرة في مجال التأليف وإلماماً بالعزف على آلات موسيقية مختلفة، منها الساكسوفون والآلات الإيقاعية، وآلات تدور في فلك البيانو مثل الأورغ الكهربائي والكلافسان والبيانو الكهربائي... ولد كيث جاريت في بنسيلفانيا في الولايات المتحدة عام 1945، ودرس الموسيقى في معاهد عدة آخرها «معهد بركلي» الصرح الموسيقي الذي يصبو إليه طلاب الموسيقى في العالم، ولا سيما الذين يريدون التعمّق بالجاز. وبدأ مسيرته في عالم الجاز الأميركي في ستينيات القرن الماضي مع أسماء كبيرة مثل آرت بلايكي، وشارلز لويد، وخاصة مايلز دايفس. عزف جاريت خلال فترة العمل مع دايفس على الأورغ الكهربائي والبيانو الكهربائي، لكنّه لم يكن يتّفق مع الأخير لناحية أفكاره الموسيقية القائمة على عصرنة الجاز... بإدخال «الكهرباء» إليه (أو أيّ جديد يفرضه الواقع). هكذا انتهت هذه التجربة العابرة والغنية مطلع السبعينيات، وبدأ جاريت جدياً مرحلة مستقلّة من العزف والتأليف.
في عام 1971، أصدر أسطوانته الأولى عند ECM، المنتج الألماني الذي ستكون له حصة الأسد من ألبومات جاريت. إنّها أسطوانة Facing You حيث اختلى بالبيانو في الاستوديو بعيداً عن الجمهور. أما المحطة الأبرز في تلك الفترة، فهي حفلة أقامها في مدينة كولن الألمانية، وهي عبارة عن ارتجالات طويلة على البيانو من دون أي مرافقة، كرّست صاحبها أهم مرتجل على آلته في العالم. أما تسجيل هذه الحفلة
(The Köln Concert) فهو من الألبومات الأكثر مبيعاً في تاريخ الموسيقى. توالت التسجيلات الحيّة وتسجيلات الاستوديو، في عزف منفرد أو مع موسيقيين آخرين، وباتت التركيبة الثلاثية التي تجمع جاريت بعازف الدرامز جاك دوجونيت وعازف الكونترباص غاري بيكوك من أهم الفرق في عالم الجاز اليوم من دون منازع. وها قد وصل التفاهم بين أعضاء الفرقة أقصى حدوده بعد 25 عاماً من العمل المشترك، وصدر الألبوم الأخير لهذا الثلاثي الأسطوري الشهر الماضي حاملاً عنوان My Foolish Heart، وهو عبارة عن أسطوانتين حوتا تسجيلاً لحفلة حيّة تعود إلى عام 2001 في «مهرجان مونترو للجاز» في سويسرا. ويرتجل الموسيقيون الثلاثة من كلاسيكيات الجاز لرموز العصور الذهبية مثل مايلز دايفس وندّ واشنطن وفاتس وولر وتيلينيوس مونك وجيري ماليغن وغيرهم... ويعكس التواطؤ بين العازفين النضجَ الكبير لهذه التجربة، من خلال الانفرادات والعزف الجماعي، في تفاعلات تشتدّ مع تقدّم المعزوفة، وردود فعل متبادلة ومتشابكة.
تتميّز هذه الأسطوانة أيضاً بالتفاتة إلى موسيقى الراغ تايم، إحدى جذور الجاز والجسور التي تصل الموسيقى الكلاسيكية بالجاز. إذ يقدم الثلاثي بعض المقطوعات في My Foolish Heart معتمدين قواعد الراغ التايم في الإيقاع وكيفية تكسيره (Syncopation).
منذ عام 1983، أصدر ثلاثي كيث جاريت 18 أسطوانة حَوَت تسجيلات حيّة أو في الاستوديو، لعلّ أهمها علبة من ستّ أسطوانات ضمّت تسجيلات ثلاث حفلات في Blue Note نادي موسيقى الجاز النيويوركي الأشهر، وحملت عنوان At The Blue Note ـــــ 1994. يضاف إلى علبة المجوهرات هذه ألبوم Bye Bye Blackbird (1991) وهو تحية إلى مايلز دايفس في ذكرى رحيله...
كيث جاريت هو بلا شكّ موسيقي استثنائي، وما يجعله كذلك ليس فقط تعدّد اهتماماته الموسيقية بين الجاز بأنماطه الكلاسيكية والحرّة من جهة، والموسيقى الكلاسيكية تأليفاً وعزفاً من جهة أخرى. وهو استثنائي ليس فقط بفضل قدرته الكبيرة على الانتاج... ونشاطه اللافت الذي سبّب له الإرهاق المزمن أواخر التسعينيات.
ومسيرة هذا الموسيقي الكبير، حافلة بالمحطات والأحداث والإنجازات الفريدة من نوعها: في عام 1995، كان جاريت أول موسيقي يدخل الجاز إلى مسرح «لا سكالا» العريق في ميلانو الإيطالية، قدس أقداس الموسيقى الكلاسيكية، والأوبرا على وجه الخصوص. وفي عام 2004، مُنح جاريت جائزة «ليوني سونينغ للموسيقى» التي تمنح عادة لموسيقيين ومؤلفين من عالم الموسيقى الكلاسيكية، فأصبح بذلك ثاني موسيقي جاز يحصل عليها بعد مايلز دايفس.
أما الميزة التي تتضارب الآراء بشأنها عند جمهور جاريت، فتكمن في إصداره أصواتاً نافرةً أثناء العزف، فهو يئنّ تارةً، ويغنّي خارج المقام تارةً أخرى، خلال انخطافاته وراء البيانو، فضلًا عن حركته الدائمة التي تقترب من الرقص، وقوفاً وجلوساً في عمليّة تفاعل كيانيّة مع نغماته. ويرى جزء من الجمهور مبالغةً مزعجةً في هذا التفاعل، فيما يستسيغ بعضه الآخر هذه الشخصية التي تميّزه. وتذكّر شخصية جاريت، بهذا المعنى، بشخصيّة عازف البيانو غلن غولد، في مجال الأداء الكلاسيكي... فكلاهما تنقسم الآراء حول ادائه المتطرّف، وحضوره الخاص الذي يضع هالة حقيقية على الموسيقى المطروقة.
أما جاريت فلا يتحمّل أيّ أصوات قد يصدرها الجمهور خلال حفلاته، خصوصاً عند العزف المنفرد. وهو لا يتردّد في توجيه الملاحظات لصاحب الحظ السيئ الذي لم يستطع السيطرة على حنجرته، فانتابه سعال مفاجئ! حتى أنّه قد يترك البيانو، ولا يكمل الحفلة إذا استمرت «إزعاجات» المستمعين، مثلما حصل في باريس العام الماضي. ووصل الأمر لدى بعض منظمي حفلاته إلى توزيع أقراص مضادة للسعال على الجمهور قبل بدء الحفلة، خصوصاً حين يكون الطقس رديئاً... وذلك لتفادي تعكير مزاج العازف المتطلّب، لا حرصاً على صحة الحاضرين!