strong> نوال العلي
• جسد الفنان موضوعاً، والوجه المستور بديلاً من صاحبه

يدمج الفنان السعودي وسائط وتقنيات مختلفة: التصوير الرقمي والفيديو آرت والصور المشغولة على الكمبيوتر. ويلعب الأداء دوراً رئيسياً في معرضه الذي ينتهي اليوم في عمّان. الموعد المقبل مع فيصل السمرة في دبي،مطلع آذار/ مارس المقبل

الفنّان ينقذ العين من أسر ما تراه، ويحاول ألّا يكون مرتهناً لشروط العالم المرئي. فإذا كان الإنسان المعاصر يعيش وسط تراكم صوري وزخم يومي هائل، فإن الفنّ يظل ضمن منطقة المتخيّل ويشكّل علاقةً غامضةً وجدانيةً وحيةً مع كل ما هو حقيقي... موجوداً كان أو مفقوداً!
في معرضه «واقع محرّف» الذي يُختتم اليوم في «البيت الأزرق» التابع لـ«دارة الفنون» الشهيرة في عمّان، اختار الفنان السعودي فيصل السمرة الصورة الفوتوغرافية وفن الفيديو للتعبير عن «الواقع الافتراضي بجميع أشكاله، وهي الصورة التي تعيش في صميم النسيج البصري لحياتنا اليومية، ونعيد إنتاجها تبعاً لكيفيّة نظرتنا لأنفسنا والعالم المحيط بنا، بالتوازي مع حياتنا الواقعية».
بدأ مشروع «واقع محرّف» عام 2005 بعدما قدّم السمرة أشكالاً مختلفة من الأعمال الفنية بين نحت ورسم وإنشاء تركيبي، مدفوعاً بالرغبة في التجريب واستغلال الوسائل الفنّية المعاصرة. وقد وصل إلى التصوير الرقمي والفيديو لما لهذه الوسائل من تأثير على استيعاب غزو الصورة للتلفزيون والسينما والهواتف الخلوية والكمبيوتر والمطبوعات الدعائية. هذه الوسائل التي تترك ندوبها على المجال البصري وعلى السلوك والذهن. وقد جاءت غالبية صور «واقع محرّف» باللونين الأسود والأبيض، فيما عُرض بالتوازي فيديو بعنوان «ارتجال» يظهر فيه شخص يحاول تخليص نفسه من أقمشة تغطّي وجهه. وكلّما حاول التملّص من الأقمشة، زادها تعقيداً وتكميماً له، فإذا به يعاود المحاولة من جديد.
ترتبط حركة الصورة، في هذا المشروع البصري، بالشعور الذي تتركه على مشاهدها. في الفيديو يحاول السمرة كشف القماش عن وجهه، نسمع جلبة يسبّبها صوت القماش والأنفاس المتسارعة، فيما يبعث الانتظار شعوراً بالغضب والفزع. يترقّب المتلقي سدىً لحظة الانفراج والانكشاف التي لن تتحقق. لنقل إنّه ينتظر ما يعلم مسبقاً بعدم تحققه. يتحوّل شريكاً حقيقياً في محاولة الانفلات من الأقمشة، وفي الشعور بالاختناق، وجزءاً من الوجه المستور الذي بات بديلاً من صاحبه. ويبدو الفنان أيضاً في صورته تلك مجرداً من المحيط، فيما يصير الواقع مجرد خلفية صامتة، أو محجوبة، أو غائبة... فالفرد في الأعمال كلها هو الحاضر الوحيد بذاتيته ولا ذاتيته.
هذا الفنّان السعودي المقيم في البحرين، والحائز جوائز عالميّة عدّة من نيويورك إلى باريس، يقدّم هنا واقعاً يحمل زيفه فيه، فهو محرّف على نحو عدائي ومرعب. هذا الإحساس يصل للمتلقي ما أن ينظر إلى الوجه المخفي في الصور الفوتوغرافية، والملثم مرةً بقماش مخطط، ومرةً بأصيص من الورد الأحمر، ومرةً بوجه يرتدي قناعاً على شكل طائر... وكلها جماليات «بشعة» ـــــ إذا جاز التعبير ـــــ ومستفزة. الصورة هنا ليست لقطة ذات أبعاد جمالية فحسب، إنها تقدّم فناً محرّضاً «مفهوميّاً» (conceptuel) ومدهشاً. كما أنها ليست جامدة: ثمة صيرورة هنا وعوالم داخلية متداخلة، يمكن التقاطها... إذ يقدّم الفنّان وجود ثلاث صور لكل حالة.
كأن السمرة بذلك يعيد إنتاج تلك الترجمة السيئة للذات التي نقلت أكثر من مرة على نحو غير دقيق. وستظل الحال كذلك من تحريف للحقيقة، حتى يغدو ذلك الواقع المحرّف حقيقية قائمة بحد ذاتها. لا بدّ من وجود صورة وأصلها كي تستقيم لعبة المطابقة. وما دام الأصل لم يعد موجوداً، فكيف يمكن تقديم صورة محرّفة عنه؟ التحريف هنا يغدو أصلاً. لذلك تجيء الوجوه في صور السمرة أصصاً، أو جزءاً من لباس، أو قطعة من شيء... هي ليست ذاتها، بل تحمل تكويناً لا يجسّدها ولا نعرف حقيقة ما كانت عليه.
تتجسّد مهمة الفنان هنا في استغلال القصد من التحريف، إذ يوجّه جهده لاستدعاء المتلقي عبر قلب ما اعتادته العين وتحريره مما هو متوقع، أي عبر شكل من المباغتة يتمثّل في إنتاج صورة تؤكد تحريف الحقيقة، بل تبني وجوداً قائماً لها في محاولة العثور على الأصل، أو المواجهة مع من يسميهم السمرة «منتجي الصورة الذين يحاولون الاستحواذ على انتباهنا وإغواءنا فيصنعون صورة لواقع محرّف تخدم أهدافهم فقط».
يستخدم السمرة أدوات الصورة المبهرجة على حد تعبيره لإنتاج عمله الفني الخاص، فيوظف الأداء والتصوير الرقمي والكمبيوتر والفيديو «للوصول إلى مدلول فنّي مغاير، عن طريق مناقضة تلك الصورة من داخل نسيجها البنائي». كما يستغل جسده كموضوع في الصور والفيديو. ويصف ذلك بأنه إحدى الإشكاليات التي تقوم عليها معالجة العمل. فاستخدام جسده في عمله الفني، يهدف إلى إحداث توتّر مباشر بين الفنان والوسيلة المستخدمة، وهي هنا الكاميرا. ويذهب الفنان إلى حد اعتبار أعماله في هذا المعرض وسيلته للدفاع عن نفسه في مواجهة سيل من صور «مبهرجة، دعائية وسياسية تجتاح حقلنا البصري والذهني». الحيلة التي يستخدمها هنا للسيطرة على عوالمه الصورية، تتمثل في إحلال الواقع الفني محل الواقع المحرف اجتماعياً وسياسياً، فهناك ومضاته وحالته المشحونة بوصفها رد فعل الفنان، أو هجاء لم يكن ممكناً إلا في فضاء الصورة، حيث اغتراب الفنان عن الواقع المحرّف يشكّل سبباً وجيهاً ليجعله موضوع التأمل فيها.
فيصل السمرة الذي درس في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، يواصل تمرّده الأصيل على منطق العمل الفني. في معرضه الأردني «واقع محرّف»، يبحث بجرأة عن مفردات حديثة، كي يخاطب زمانَه، فلا يكون غريباً بل شاهداً حياً على الواقع الجديد. وقد جاءت أعماله لتورط ذلك الواقع في الفن، على نحو مكثّف وجديد، وبعيد عن الترهل البصري، مثلما كانت الحال في معرضه الشخصي الأول في باريس «المعلقات» (1989)، حيث ترك السمرة القماشة معلّقة من جهة واحدة إلى أعلى الجدار، لاعباً على الفراغ الذي صار جزءاً من العمل.
بعد ذلك، قدّم السمرة في معارض كثيرة، بينها «الطية»، و«حس تشكيلي»، و«نبطيات»، و«منمنمات معاصرة»، ثم «أيقونة» و«جسد آخر»... أعمالاً ترتكز على ثيمة واحدة تجعل من «صميم الهمّ الإنساني» مادتها... تتجسّد هذه المقاربة بامتياز في معرضه البيروتي «مواطن عالم ثالث»، حيث تناول تقسيم العالم إلى أول وثانٍ وثالث والعلاقة بينها، أو في معرض «النار الأخيرة» الذي وصفه السمرة بأنّه «إنعاش الضمير تجاه الآخر وإيقاظ الوعي بالكارثة البيئية التي سبّبتها نزعتنا الاستهلاكية المحمومة».
www.daratalfunun.org