strong>رامي الأصيل
المذكّرات المنسيّة التي أراد نشرها يوسف الخال

يورثنا الشاعر قصائده وجراحه ويمضي، عذاباته الموزّعة على المدن و«رسائل الحبّ الكثار»... لكن بين أوراقه المنسيّة نعثر غالباً على كلمات أكثر فجاجة، مثل كتابات السيّاب التقذيعيّة بحق رفاقه السابقين. إنّها بصمات مرحلة صاخبة في الذاكرة العراقيّة

«كنت شيوعياً» كتاب يضم نصوصاً قديمة للشاعر بدر شاكر السياب (1926 ـــــ 1964) يعاد اصدارها للمرّة الأولى عن «دار الجمل» في كولونيا. يجمع الكتاب فصولاً أقرب الى «المذكّرات» أو «الاعترافات» كتبها الشاعر قبل نصف قرن، معلناً حربه على الشيوعية والشيوعيين العراقيين الذين كان قد انفصل عنهم ـــــ حزباً ورفقة ـــــ قبل ستّ سنوات من كتابة هذه الفصول. هكذا، عاد صاحب «أزهار ذابلة» ليستخدم أبشع الصفات وأقذع لغة في «تصفية حساب» مع الخصوم، ولم يوفّر مفردات تدور خلال أحاديث المقهى أو بين ألاصدقاء والأصحاب، إلا أجراها على سنان قلمه. وهو ما أثار السؤال مجدداً عمّا اذا كان صدور هذه المذكرات أو الاعترافات بصيغتها التي كتبت بها عام 1959 سيفتح المعركة مجدداً بين «السياب الغائب» ومَن بقي من «شيوعيي الأمس» الذين دارت معركته أصلاً معهم؟ أم أنّ «شيوعيي اليوم» في العراق سيجدون أنّ الأمر لا يعنيهم بعد «التحولات» التي مرّوا/ ويمرّون بها، وسيقرأونها بوصفها تمثّل معركة مع «جيل غائب» هو الآخر لم يبق معهم منه سوى «الاسم»؟
خرج السياب من الحزب الشيوعي العراقي في وقت مبكر (1953). الا أنّ القضية لم تأخذ حضورها المعلن إلا في العام التالي، حين أصدر ملحمته الشعرية «المومس العمياء» التي لم تنل رضا الشيوعيين، بل أثارت غضبهم وسخطهم على الشاعر.
ومع أنّ خلاف السياب معهم بدأ منذ ذلك التاريخ، فإنّ «هجومه» عليهم وعلى حزبهم ظلّ في حدود الكلام، ولم يصل الى الكتابة ـــــ حسبما يلفت في مذكّراته هذه ـــــ الا في وقت متأخر نسبياً. وإن كانت بداية الهجوم المعلن على السياب عبر الصحافة اللبنانية يوم أصدر كتابه «قصائد مختارة من الأدب الاجنبي». يومها، علّقت مجلة «الثقافة الوطنية» على صدور المجموعة بالقول: «... وهذا شخص اسمه بدر شاكر السياب أصدر كتاباً ضمّ طائفةً من القصائد لشعراء من الفاشيست النازيين أمثال أزرا باوند، ومن الجواسيس الذين اشتغلوا في الانتلجنسيا سرفيس أمثال ستيفن سبندر». فردّ السياب مدافعاً عن اختياراته في ما ترجم قائلاً: «إنّني اخترتها لأنّها مجرد قصائد جيدة، وذات محتوى إنساني، بغضّ النظر عن هوية كاتبها»... معلناً في سياق ردّه بأنّه ليس شيوعياً ليتّهمه «الشيوعيون بالانحراف وخيانتهم» (ص 24).
عندما كتب السيّاب مذكّراته « كنت شيوعياً»، وبدأ نشرها حلقات في صحيفة «الحرية» البغدادية صيف 1959، كانت المعركة بين «الشيوعيين العراقيين» والأحزاب والحركات القومية والاسلامية قد تجاوزت الحدود الموضوعية والصراع الفكري، لتحل مكانه ساحة التشهير وتتبع السقطات والفضائح. وكان باب الصحافة قد انفتح على مصراعيه لهذا الأسلوب في الكتابة، اثر مجزرتي الموصل وكركوك اللتين ارتكبهما الشيوعيون في النصف الاول من العام ذاته. وهو العام الذي شهد حالة من تفشّي الإرهاب الدموي قادها «الحزب»، ولم يشهد لها العراق مثيلاً الا في «سنواته الاميركية» الأخيرة.
ولعل ما شجّع على أن تأخذ «المعركة» بين الطرفين مثل هذه الأبعاد (الشيوعيون من جهة والقوميون والاسلاميون من جهة أخرى)، انقلاب عبد الكريم قاسم على الشيوعيين في أيار (مايو) 1959. من حينها راحت الصحافة القومية والاسلامية تعجّ بالمقالات والكتابات المعادية للشيوعية، وكانت بينها مذكرات السياب التي اتخذت طابعاً مزدوجاً: متابعة الحوادث والوقائع والمواقف والحالات معززةً بأسماء «أبطالها»، والتشهير الذي لم توفر «لغته الفضائحية» شاردةً أو واردة إلا أتت عليها. وكانت لغة انتقامية أو ثأرية جراء ما تعرض له «الشاعر الكبير» على أيدي «رفاق الأمس»، بما في ذلك تعرّضه للضرب على يد فنان تشكيلي معروف، واعتقاله والتشهير به سياسياً.
وقدم السياب الحزب الشيوعي العراقي في مذكّراته هذه، بوصفه حزباً متحللًا من جميع القيم الأخلاقية، وخارجاً عن الاعراف الاجتماعية ولا يقيم وزناً للحرمات، وما الى ذلك من «مصطلحات التشهير».
أطلق الشاعر العنان لقلمه في كتابة ما كانت ترحّب به «الأوساط المضادة» للشيوعية والشيوعيين في العراق.
واعتمد السياب لغةً ابتعدت عن «لغة السياسة» أو «المساجلة»، وبلغت حدّ القذف والتشهير. علماً أنّ المسؤول عن التحرير في صحيفة «الحرية» مارس فعل الرقابة، حاذفاً بعض ما كتبه السياب قبل نشره. وقد أكّد السياب نفسه ذلك، عندما قال في إحدى حلقات تلك المذكرات مهدّداً الشيوعيين إنّه «لولا سموّ جريدة «الحرية» وارتفاع مستواها... لفضحتكم فضائح لن تغطى بغطاء» (ص 81).
خلال سنوات مرضه، بعث الشاعر يوسف الخال رسالةً إلى السياب مقترحاً عليه إعادة النظر في ما كتبه في مذكراته (أو اعترافاته)، وإعادة كتابتها وتشذيبها من الكلمات والعبارات الجارحة التي تتناول أشخاصاً معروفــين في الحزب الشيوعي العراقي، وتمسهم في اخلاقهم وسلوكاتهم، ليجعل منها كتاباً ذا اهمية سياسية وتاريخية وثائقية. وتعهّد له الخال بطبعه وإصداره عن «دار مجلة شعر» (ضمن الحملة التي قادتها المجلة على الشيوعية، إذ أصدرت بعض الكتب التي تصبّ في تيار «معاداة الشيوعية» وكان بينها كتاب عن التعذيب في سيبيريا ترجمه أدونيس).
استجاب السياب بحماسة لدعوة الخال، وبدأ فعلاً بإعادة تحرير ما كتب في دفتر لم يستنفد منه إلاّ بضع ورقات. إذ توقف بسبب اشتداد المرض عليه، واضطراره للتنقل بين بيروت ولندن والكويت
للعلاج.
وقد ظلّت هذه الصفحات كما كتبها بخطّ يده، في منزله في البصرة. الا أنّ عائلة الشاعر اضطرت لمغادرة المنزل أوائل الثمانينيات خلال الحرب العراقية ـــــ الإيرانية، فتعرّض المنزل لعملية سطو لم توفر حتى أوراق الشاعر
وكتبه!