strong>بشير صفير
  • نحو نهاية المعادلة القديمة: «هو يبدع وهي تؤدّي»


  • تأجّلت الأمسية التي كان يفترض أن تحتضنها الجامعة الأميركيّة في بيروت هذا الأسبوع، مقدّمةً فرصة ثمينة لاكتشاف أعمال مؤلِّفات معاصرات، من الأميركيّة ميريدث مونك إلى اللبنانيّة جويل خوري... لكن السؤال يبقى مطروحاً: لماذا احتكر الرجل، عبر العصور، عملية الخلق في المجال الموسيقي؟

    «المرأة التي تؤلّف الموسيقى تشبه الكلب الذي يمشي على قائمتيه الخلفيتين. هو يمشي بشكل سيّىء لكنّه يذهلنا بما يفعل»، هكذا اختصر الشاعر والناقد البريطاني جونسون صاموئيل (1709ـــــ 1784) محاولات المرأة الخجولة في التأليف الموسيقي. على رغم أنّها لا تقل شأناً عن الرجل في الأبواب الموسيقية الأخرى، كالعزف والأداء والتعليم، بل تتخطّاه بوضوح في الغناء، فإن المشهد يختلف في مجال التأليف الموسيقي. والدليل أنّه إذا اعتمدنا الموسيقى الكلاسيكيّة نموذجاً، لكونها تختزن العنصر الأنتروبولوجي بفعل قدمها، سنرى بالأرقام أنّ لا مجال للمقارنة بين ما قدّمه الرجل كمّاً ونوعاً في مجال التأليف، وبين محاولات المرأة على مدى الألفية الثانية.
    لكن ما الذي سبّب احتكار الرجل للخلق والإبداع الموسيقيَّين؟ لماذا اقتصر دور المرأة على «خدمة الموسيقى» غناءً وعزفاً وتعليماً؟
    انطبعت حقاً في أذهاننا صورة كرّسها منذ القدم المجتمع الذكوري، ويمكن اختصارها بعبارة: المرأة لا تؤلّف. ولا مجال لأن تتعلم التأليف، أو حتى أن تحاول. فدورها في عملية إبداع أي عمل، هو دور الملهِمة ومصدر الوحي للرجال العظماء. بالطبع، هذا التوجّه في التفكير الذي يميل إلى ادّعاء تفوّق الرجل على المرأة إجمالاً، يعود إلى جملة عوامل، لعلّ أبرزها الأخلاقيات الدينية المتجذّرة في القِدم، والتي ولدت مع اليهودية، واجتهدت فيها المسيحية ومن ثم
    الإسلام.
    وإذا استعرضنا تاريخ المرأة المؤلِّفة منذ أن بدأ التدوين الموسيقي يأخذ الشكل الذي تطوّر ليصبح ما هو معتمد اليوم (لنقل من القرون الوسطى حتى اليوم)، نرى أنّ هذا التاريخ عرف مراحل ومحطات شهدت أسماء كبرى. علماً بأنّ أكثر من 60 في المئة من المؤلّفات ينتمين إلى القرن
    العشرين.
    وتشاء سخرية القدر أن يكون أول الأسماء البارزة في عملية التأليف الموسيقي عموماً، ومن أوائل مَن كتب الموسيقى التي تمثّل الإرث البشري، الراهبة الألمانية الشهيرة هيلديغارد فون بينغن (1098 ـــــ 1179) التي رفعت لواء المرأة، حتى من خلال تلحين النصوص الدينية. إذ كانت تختارها من الكتابات التي تتناول العذراء مريم وحياة القدّيسات الشهيدات.
    تُعدّ تلك الرائدة الألمانية من أبرز المطوّرين في الكتابة البوليفونية للكورال. وما زالت موسيقاها موضع اهتمام لدى فرق معاصرة لها تسجيلات عدة (مجموعة أعمالها الكاملة متوافرة لدى شركة DHM). حصل تاريخياً بعد الراهبة الألمانية نوع من الركود في اسهامات المرأة في التأليف الموسيقي، ولم تظهر أسماء تُذكر حتى القرن التاسع عشر. خلال هذه الفترة، كان فنّ التأليف يتطوّر سريعاً في المجتمع... واكبه وأسهم فيه اختراع الآلات الموسيقية وتطويرها، والتمكّن تقنياً منها. وشهد التأليف النقلة النوعية مع باخ، والكمال مع موزار، واللمسة الأخيرة مع
    بيتهوفن.
    من جهة أخرى، درجت منذ مطلع القرن الثامن عشر وحتى بداية القرن العشرين، عادةٌ ثقافية بورجوازية، هي توجيه الفتاة إلى الاهتمام بدراسة الموسيقى لإضافة عنصر أساسي إلى مؤهلاتها وجذب أفضل العرسان! وقد نتج عن ذلك ظهور أسماء كبيرة في القرن التاسع عشر، مثل فاني مندلسون (وخصوصاً في الأغنيات) شقيقة المؤلف الألماني الشهير فيليكس مندلسون، وكلارا شومان زوجة أحد أبرز وجوه الرومنطيقية روبير شومان، وكانت هذه الأخيرة المرأة الأولى التي عزفت أعمال البيانو التي وضعها زوجها وشوبان وبرامز. هذا إضافة إلى إسهاماتها الكبيرة في عالم التأليف (خاصة أعمال البيانو). كما اشتهرت بعد ذلك ألما ماهلر، زوجة المؤلف السمفوني النمساوي غوستاف ماهلر، والفرنسية ناديا بولانجيه التي عُرفت في التأليف كما في التعليم.
    أما القرن العشرين فقد أسهم في تغيير نظرة المجتمع الفوقية الى المرأة المؤلِّفة، فتمكّنت بالتالي من بلوغ مستوى المنافسة بينها وبين الرجل في مجال التأليف الموسيقي، حتى الطليعي والتجديدي والثوري منه. المبدعات كثيرات، وقد وصلن إلى الشراكة الحقيقية مع الرجل في عملية خلق الحالة الموسيقية المعاصرة: من الاتحاد السوفياتي، جاءت المؤلِّفتان الطليعيّتان غالينا أوستفولسكايا وصوفيا غوبايدولينا اللّتان لم تعرفا الشهرة قبل انهيار الستار الحديدي بسبب نمطهما الحداثوي الذي لم يكن النظام يحبّذه.
    وفي الولايات المتحدة، تعدّ المؤلفة الكبيرة ميريدث مونك (1942) من أبرز الأسماء في بلدها والعالم، ولا سيما في مجال التأليف التجريبي للصوت البشري وتوظيفه في المسرح الغنائي والأوبرا الحديثة. أما في الدول الاسكندينافية التي لم تكن فيها للمرأة تجربةٌ تُذكر في مجال التأليف من قبل، فقد ظهرت مواهب عدة في أواخر القرن الماضي، أبرزها الفنلدية كايجا سارياهو (1952) التي نشطت في الساحة الفرنسية، وتحديداً في تيار الموسيقى الكلاسيكية الإلكترونية في الثمانينيات. ونذكر من أعمالها الأخيرة أوبرا بعنوان «الحب عن بعد»، كتب نصّها الأديب اللبناني أمين معلوف، وعرضتها في العالم، كما حلّت ضيفةً على مهرجانات البستان خلال موسم 2005.
    هكذا، استطاعت المرأة أن تقلّص الفرق الشاسع بينها وبين الرجل في النتاج الإبداعي الموسيقي، فرق ساد قروناً بسبب عوامل اجتماعية وفنية وتاريخية عدّة. لكنّ المهم الآن هو أنّها تقترب كل يوم أكثر من نقطة التعادل، فهل تحقّقه يوماً؟ أم ربّما...
    تتجاوزه؟