خليل صويلح
تعاني نجلا، بطلة رواية «على صدري» (دار قدمس ــــ دمشق)، للسورية منهل السراج، مشكلة ضخامة صدرها: كلما أرادت أن تدلي برأيها في قضية ما، ينهض ثدياها ويخرسانها. وكلّما حاولت أن ترفع صوتها أكثر يرتفعان أكثر، فتصمت فجأة، قبل أن توصل فكرتها إلى الآخرين.
تعمل نجلا في مديرية الآثار في مدينة حماه. هذه المدينة التي تغيرت خريطتها تماماً بعد الأحداث الدموية التي شهدتها في مطلع الثمانينيات، فتسعى من دون هوادة إلى الحفاظ على ما بقي من آثار المدينة القديمة، لكنها تفشل في إعادة رسم الخريطة كما كانت. خلال جولاتها على المواقع الأثرية، تتعرف نجلا إلى ظافر، وتقع في حبه، لكنه سرعان ما يخذلها بمبررات ذكورية حمقاء. هكذا تعيش حياتها في محاولة ترميم حبها الضائع على خلفية علاقات أخرى تنتهي بالفشل، بسبب ضخامة صدرها وقصر قامتها. تحاول أن تعوّض فشلها بكتابة يومياتها، ما يكشف عن حسية مخبوءة وخيبات مريرة وأمل باستعادة طفولة سعيدة في كنف جدتها حياة، إذ لا زالت تحتفظ بحاجياتها في غرفتها، بما يشبه خط دفاع أخير عن أصالة غائبة.
تكتشف نجلا، من طريق علاقتها بصديقتها لينا القادمة من أميركا، شوارع أخرى للحياة، تنفتح على اهتمامات بالشأن العام. ففي بيت لينا، تتعرف إلى رسامين وسجناء سابقين وشعراء، وأحاديث عن اعتصامات وشعارات وتبرعات. تحاول أن تبني علاقة جديدة وارتكاب جنح عشق مع أحدهم تنسيها علاقتها بظافر، فتفشل مرة أخرى بسبب ضخامة صدرها.
هكذا تفرش خرائط حياتها وخرائط المدينة جنباً إلى جنب. وحين تكتشف هباء حياتها وخراب المدينة، تلجأ إلى الماضي، فتنهض في ذاكرتها «مدن الخيال» وأقواس قلعة شيزر وصوت النواعير على ضفاف العاصي.
«على صدري» ليست سيرة نجلا وحدها، بل سيرة مدينة فقدت تضاريسها وروحها منذ أن صارت للشوارع والساحات أسماء أخرى. فالمدينة على الخريطة أشبه بإجاصة مقضومة ولا مجال لترميم العطب. وها هي تدوّن على كومبيوترها الشخصي آلامها ومكابداتها وعشقها للمدينة التي «تعيش زهو حاضرها وأصالة ماضيها»، حسب إحدى اللافتات التي تعبرها نجلا بلا اكتراث. «لم أعبأ بتحديد هويتي، تعبت من الهدم والعمار واجترار التجربة. أمسكت أضابيري التي سهرت طويلاً عليها. رميتها واحدة إثر الأخرى».
منهل السراج في روايتها الثالثة، بعد «كما ينبغي لنهر» (2003) و«حارة الجورا» (2006)، أسيرة المكان في متاهاته وخرائطه المتبدلة وآثاره المنهوبة. ولعل اللافت في هذه الرواية أنها تحاكي في سرديتها، دوران الناعورة وأنينها الأبدي، كأن ما كانت ترويه الجدّة من حكايات، لم يتزحزح عن صدر الحفيدة بكل تفاصيله وشاعريته. هناك ما هو ملموس وحسي في صدر امرأة جرّبت غواية الحكاية، فارتدّت عليها على شكل خيبات متتالية، ولم يكن أمامها سوى أن تمزّق الخرائط وتبكي.