حسين بن حمزة

لقد فعلها أخيراً! مضى فجر أمس، بخفّة كما عاش.
سركون بولص الذي صرعه الوهن عن 63 عاماً، يوارى الثرى في برلين على مقربة من مواطنه المسرحي عوني كرومي. إنّه الشاعر العراقي الأكثر شفافيّة، كتب كما عاش، بلا ظهر ولا قبيلة ولا مريدين


رحل سركون بولص. لعل الخبر فيه قدر لا يُستهان به من المفارقة. إذ لا نعرف إن كان سركون مقيماً بيننا بكامل حضوره الشعري، حتى نقول ببساطة إنّه رحل. ألم يكن هذا الشاعر راحلاً، بالمعنى الجغرافي، حين ترك مدينته الأولى كركوك إلى سان فرانسيسكو ملبياً نداء الشعر الغامض والسحري؟
ألم يكن راحلاً، أو بالأحرى مرحّلاً، بالمعنى النقدي، عن حياتنا الثقافية التي يقوم جزء كبير منها على النميمة والدسائس، والتي غالباً ما يلعب فيها الوجود الشخصي للشاعر دوراً أساسياًً في الاهتمام به ومتابعة تجربته. ثقافتنا ساحة للعلاقات الشخصية، ولا تتذكر من هم بعيدون إلا في المناسبات. على الشاعر أن يحضر فيها مع كتابه. بغير هذه الطريقة لن تكون له عزوة. سركون بولص كان بعيداً باستمرار. لم يكن لديه وكلاء وممثلون شخصيون كي يديروا «أعماله» الشعرية هنا. بهذا المعنى، كان غياب سركون بولص مصدر راحة لكسلنا النقدي. لم يكن موجوداً بيننا ليحرجنا، بشخصه على الأقل، إن لم يكن بشعريته الفذة التي يصعب علينا تجنب تأثيرها.
في حالة سركون، ثمة دوماً أسباب إضافية للحزن. فهذا الشاعر المتفرد عاش بلا ظهر، بلا قبيلة، بلا مريدين. باستثناء من تعرفوا إلى الأحشاء الحقيقية لتجربته الشديدة الخصوصية ـــــ وهم قلّة بالطبع ـــــ لم يتسنَ لصاحب «الوصول إلى مدينة أين» أن ينتشر ويُدرس نقدياً ويُحدد أثره الشعري، سواء بين مجايليه أو بين من الأجيال التي جاءت بعده. الشعر عصبيّات، وسركون بولص لم يكن يملك ما يُديم ذكره ويدافع عن موطئ قصيدته الراسخ والمتميز. لقد وهب حياته للشعر. لم يفعل شيئاً آخر تقريباً. لكنه في الوقت نفسه، وكأي شاعر حقيقي، لم يسعَ إلى الأضواء. لم يخطط لصناعة شهرة أو صيت مبالغ به. لم يسأل عما كانت تفعله نصوصه بقرائها. كنا نعرف أنه مريض بالشعر، قبل أن يُصاب بذاك المرض الفتّاك الذي يُسرع بصاحبه إلى الموت.
كان سركون بولص شاعراً حقيقياً إلى حد أنه أهمل أن يتقصّى ما يتسرّب من شعره إلى نصوص الآخرين. لم يكترث بأن يكون هؤلاء مدينين له، ولم يطرق أبوابهم يوماً مطالباً بما له في ذمّتهم. منذ بداياته المبكرة، حين كان واحداً من «جماعة كركوك»، كانت نصوصه تأتينا من حيث لا نتوقع. كان شاعر قصيدة نثر ولكن على حدة. وحين صارت قصيدة النثر مشاعاً ظلت قصيدته محتفظة بقوة المفاجأة.
ما إن نقرأ مستهل أي عمل من أعماله حتى ندرك أننا مدعوون للسير في طريق فرعية، ضيقة ووعرة، ولا يسلكها الشعراء عادة. لعل جزءاً من فرادة سركون بولص تكمن في أنه أراد أن يرفع النثر نفسه إلى مستوى الشعر، لا أن يستخرج قصيدة من هذا النثر. أن يحقق النثر حضوره النصي من دون سعيه إلى أن يكون شعراً. باستثناء تجارب نادرة، وقع أغلب شعر النثر العربي في مصيدة أن شاعر قصيدة النثر مطالب بإثبات «شعرية» هذه القصيدة، مستسلمين لفكرة وهمية تمنح الشعر مقاماً أرفع من النثر، بينما كان طموح تلك الأقلية النادرة هو إثبات «نثرية» ما يكتبونه.
وهب سركون بولص كل شيء للشعر، بحيث يصعب علينا أن نفرّق بين أن يكون قد فارق الحياة الآن أم فارق الشعر.
بنبرته المادية ومفرداته الملموسة والحسية المنتمية إلى المعجم الخشن للنثر، بلغته المتخلية عن البلاغة ومعظم الأسلحة والذخائر التقليدية للشعر، أراد صاحب «الأول والتالي» أن يتفرغ لممارسة شعرية مختلفة. ولهذا كانت أعماله زاخرة بما هو غريب ومدهش وبعيد عن المتناول. كأن جملة سركون الشعرية كانت من اختراعه. خُلقت معه، والأرجح أنها ستُدفن معه. غالباً ما يبدأ قصيدته بجملة لا تسهّل على القارئ أن يعرف كيف سيكملها، وكيف، بالتالي، ستنشأ الاستعارة الشعرية التي يطاردها في خياله. جملة سركون بولص وصوره الشعرية ونثريته الفاتنة، كل ذلك هو ماركات مسجلة باسمه. حين نقرأه لا يذكِّرنا سوى بنفسه.
تعب جسد سركون بولص وخذله. كان خياله الخالد سابقاً لجسده الفاني. لقد أدرك هذا مبكراً، فكتب: «أنا من باع حياته ليشتري عينين وفيتين / أتعبني ما عرفتُ مقدماً / وجسدي لم يعد يتبعني». ولكي تكتمل صورة الشاعر فيه، «تواطأ» مع الذين أهملوا شعره، فأهمله هو أيضاً. أصدر كتابه الأول بعد أكثر من عشرين عاماً على حضوره القوي والمباغت على صفحات مجلتَي «شعر» و«مواقف» في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي. كتب كثيراً ولم ينشر إلا القليل.
مستشهداً بجيرترود ستاين، وفي كلمة مخصصة ليوم الشعر العالمي، كتب سركون بولص قبل أعوام، أن على الكاتب أن يكون له وطنان... ذاك الذي ينتمي إليه والآخر الذي يعيش فيه فعلاً. لعل صاحب «حامل الفانوس في ليل الذئاب» كان يدافع عن خياره المبكر بمغادرة مسقط رأسه، واللحاق بالشعر الذي قاده إلى بيروت ثم سان فرانسيسكو ثم برلين. الواقع أنّ هذا المسار الواقعي يُخفي السيرة الحقيقية لهذا الشاعر الذي كان يسعى إلى الحصول على إقامة دائمة في أرض الشعر.
الأرجح أن فكرة أن يكون للشاعر وطنان هي التي جعلته يكتب: «أنا في النهار رجل عادي / يؤدي واجباته العادية دون أن يشتكي / كأي خروف في القطيع / لكنني في الليل / نسرٌ يعتلي الهضبة / وفريستي ترتاح تحت مخالبي».

سيرة

أبصر النور في العام 1944، وعاش حتى الثالثة عشرة في الحبانية (800 كلم غرب بغداد) الزاخرة بالمياه. بعدها انتقل الى كركوك، وهنا بدأ كتابة الشعر. في العام 1961 نشر يوسف الخال قصائده في مجلة «شعر». وبعدها بخمس سنوات سيأتي إلى بيروت سيراً على الأقدام، عبر الصحراء وبلا جواز سفر. هنا قصد المكتبة الأميركية، طالباً أعمال آلن غينسبرغ وجاك كرواك وآخرين، وأعد ملفاً عنهم في «شعر». في المدينة التي كانت تعرف نهضة ثقافية، انكبّ على الترجمة، قبل أن يستأنف ترحاله. هذه المرّة ستكون وجهته الولايات المتحدة (1969)، وفي سان فرانسيسكو سيلتقي جماعة الـ«بيتنيكس» ويعقد صداقات معهم. ديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين» (1985) يعكس بوضوح تلك المرحلة البوهيميّة من حياته. مجموعات الشعرية الأخرى هي «الحياة قرب الأكروبول» (1988)، «الأول والتالي» (1992)، «حامل الفانوس في ليل الذئاب» (1996)، «إذا كنت نائماً في مركب نوح» (1998). وصدرت له مختارات شعرية مترجمة بعنوان «رقائم لروح الكون»، وسيرة ذاتية بعنوان «شهود على الضفاف» ومختارات قصصية نُشرت بالعربية والألمانية بعنوان «غرفة مهجورة».



لا يمكن استعادة مسيرة سركون بولص من دون التوقف عند «جماعة كركوك». لقد ضمت هذه الجماعة أكثر تجارب الشعر العراقي الستيني طليعيةً: سركون بولص وفاضل العزاوي ومؤيد الراوي وجان دمو وصلاح فائق... معظم هؤلاء كانوا يتقنون اللغة الإنكليزية، فاطلعوا على التجارب الغربية بوصفها مؤثراً ضرورياً في صنع النسخة العربية من الحداثة وقصيدة النثر. ولعل الاطلاع المبكر على الشعر الأميركي والتأثر به تدخّلا في تكوين نبرة سركون الشعرية الذي رأى أنّ «الترجمة تجعل جميع اللغات والكتابات تتداخل وتتلاحم لتخلق شيئاً جديداً»، ناصحاً «كل شاعر بأن يعرف لغة أخرى وأن يحاول الترجمة حتى لو كان ذلك من أجل لذته الخاصة».