strong>بشير صفير
• بحثاً عن المرأة المؤدّية في التراث الكلاسيكي
في مجال التأليف ما زالت تحت سيطرة الرجل، أما في مجال الأداء فهي متساوية معه منذ قرابة قرنين، نوعياً على الأقل! المرأة المؤدية موجودة، ولها مكانتها ومجال ريادتها، منذ «مدام» شومان... إلى اللبنانية تاتيانا بريماك ـ خوري

يكتفي كثيرون عند التعاطي مع عمل كلاسيكي، بعنوان المقطوعة الموسيقية وباسم مؤلفها. وقد لا يولي المستمع العابر، اهتماماً كافياً لجانب حسّاس وأساسي في العمل الإبداعي، هو الأداء الذي يعتبر عنصراً من عناصر الموسيقى الكلاسيكية الغربية يميّزها عن الأنماط الأخرى. ولا نبالغ بالقول إنّ إلغاء الأداء هو إلغاء أحد عناصر الثالوث الذي تقوم عليه الموسيقى الكلاسيكية: التأليف والعزف والأداء. العزف هو تحويل العمل الموسيقي لأوّل مرة من مادة مكتوبة إلى مادة صوتية. أمّا الأداء فهو إعادة خلق هذا العمل ومحاولة إضفاء لمسة خاصة عليه، عبر نبش خفايا جمالية كامنة فيه، من دون أي تعديل لما كتب في الأصل.
لم يبرز الأداء، كمهنة قائمة بحدّ ذاتها في الصناعة الموسيقية، إلا في أواسط القرن التاسع عشر، مع اسمين كبيرين، أوصل كلٌّ منهما آلته الأساسية إلى قمّة مجدها: عازف البيانو والمؤلف فرانز ليست (1811 ـــ 1886)، وعازف الفيولون والمؤلف الإيطالي نيكولو باغانيني (1782 ـــ 1840). ويعود الفضل في ولادة مهنة الأداء حينها إلى ريبيرتوار الأعمال الموسيقية الذي أصبح ضخماً (وخصوصاً الأعمال التي كُتبت للبيانو والفيولون)، بعدما تركه باخ (1685 ـــ 1750)، وموزار (1756 ـــ 1791)، وبيتهوفن (1770 ـــ 1827) وغيرهم. أما السبب الأساسي في تطوّر هذه المهنة فهو اختراع التسجيل الصوتي نهاية القرن التاسع عشر، حين باتت المقارنة ممكنة بين أداء هذا العازف وذاك في تسجيلين للعمل ذاته.
لكن أين المرأة المؤدّية وسط كل هذا؟ إذا كان تاريخ الموسيقى ضنيناً على المرأة المؤلفة بالمكانة التي تستحقها، فإن الأمر مختلف بالنسبة إلى الأداء. إن مكانة المرأة العازفة لا تقلّ شأناً عن الرجل، إذ تمكنت في وقت مبكر من تقنيات الآلات الصعبة كالبيانو والفيولون. وقد احتلت لنفسها مكانة مرموقة منذ مطلع القرن العشرين، بعد ظهور بعض الأسماء الكبيرة (نسبياً) خلال القرن التاسع عشر.
ومن أوائل اللواتي اشتهرن في مهنة الأداء، المؤلفة الموسيقية وعازفة البيانو كلارا شومان (1819 ــــ 1896) التي كانت تُعتبر من أهم الأسماء، بشهادة مَن أدّت أعمالهم كفرانز ليست (صاحب أصعب الأعمال المكتوبة لآلة البيانو)، وزوجها المؤلف الألماني روبرت شومان، وصديق العائلة يوهانس برامز. قبل هذه الرائدة، اشتهر اسمٌ في النصف الثاني من القرن الثامن عشر: إنّها نانيرل، شقيقة موزار التي كانت تؤدي أعمال أخيها الأصغر المكتوبة للبيانو، إضافة إلى أعمال مؤلفين آخرين، في وقت لم تكن مهنة الأداء مطروحة بشكل جدي.
في المرحلة الثانية من تطور فن الأداء، أي منذ مطلع القرن العشرين وبعد اختراع التسجيل، أبدعت المرأة في هذا المجال وتعادلت مع الرجل في تقديم أجمل التسجيلات. ولماذا تعصى عليها الأعمال التي تتطلب تقنيات عالية، أو تستدعي قدرةً عقليةً وإحساساً مرهفاً لفهم جوهر الفكرة التي أرادها المؤلف، وإيصاله بالطريقة المثلى؟ وظلّ الوضع نفسه قائماً اليوم في مجال الأداء، حيث الرجل والمرأة متساويان أقلّه في الجودة والنوعية، وإن ذهبت حصة الأسد كمّاً إلى الرجل.
نستطيع اليوم أن نسمع ما أبدعته عازفة الكلافسان البولونية فاندا لاندوفسكا (1879 ــــ 1959) في أداء أعمال موزار وباخ. لقد انتشلت هذه المرأة تلك الآلة الموسيقية من النسيان، بعدما سرق البيانو كل الأضواء على مدى قرن ونيف. ومن الرائدات أيضاً نذكر عازفة البيانو الإنكليزية مايرا هِسّ (1890 ـــ 1965) التي غطّت باهتمامها كل الحقبات منذ الباروك حتى معاصريها. علماً بأنّ تسجيلاتها نادرة جداً. والفيلسوفة السوفياتية وعازفة البيانو ماريا يودينا (1899 ــــ 1970) التي اشتهرت بشخصيتها الفولاذية. وهي كانت تحتلّ مكانةً خاصةً عند «الرفيق» ستالين الذي دعاها مرّةً ليلاً إلى الكرملين مع الأوركسترا لتعزف له إحدى كونشرتوهات موزار (رقم 23).
وفي مجال العزف على آلة الفيولون، تركت لنا الفرنسية جينات نوفو (1919 ــــ 1949) تسجيلات مرجعية لكن قليلة، إذ توفيت عن ثلاثين عاماً. ومن المخضرمات اللواتي صنعن أمجاداً في الأداء في النصف الثاني من القرن العشرين، برزت الأرجنتينية مارتا ارغويتش (1941) التي ما زالت تقوم بتسجيل أعمال للبيانو حتى اليوم، وعازفة التشيلو الإنكليزية جاكلين دوربريه (1945 ـــ 1987) صاحبة تسجيلات ما زالت في رأس قائمة الأداء التاريخي (وخاصة كونشيرتو التشيلو والأوركسترا للإنكليزي إدوارد إلغار)...
أمّا من الجيل الجديد، فنشير إلى الأسماء التي تصنع الحدث في عالم الأداء، مثل هيلين غريمو عازفة البيانو الفرنسية الأشهر والأنجح في مجالها وعازفة الفيولون الألمانية آن ـ صوفي موتر التي ارتضاها قائد الأوركسترا الأشهر في العالم هربرت فون كاريان عازفةً تحت قيادته في سنواته الأخيرة (الثمانينيات).
وعلى سبيل المقارنة بين الرجل والمرأة في مجال الأداء، يظهر «معجم المؤدين» (Robert Laffont ــــ 2004) للموسيقي وقائد الأوركسترا الفرنسي ألان باريس الذي يغطّي قرناً من الأداء، أنّ بين حوالى 500 عازف بيانو، هناك 100 عازفة (20 في المئة)، وبين 260 عازف فيولون، هناك 40 عازفة (15،4 في المئة). أمّا المرأة فتتخطّى الرجل في الأداء (مستوى وعدداً) على آلة وحيدة هي الهارب (Harpe). إذ بين 25 عازفاً هارباً اشتهروا في القرن العشرين، برز 11 رجلاً (44 في المئة). أما الغرابة فنجدها على مستوى آلة الفلوت... هذه الآلة الممتلئة أنوثةً يتقنها 35 عازفاً بينهم امرأتان فقط. أمّا خسارة المرأة أمام الرجل فتكمن في قيادة الأوركسترا: على صعيد المستوى، لا تجوز المقارنة بينهما، فيما لا تتخطّى نسبة النساء في الأوركسترا الواحد في المئة... حتى الآن!