الجزائر ــ بشير مفتي
14 عاماً مرّت على رحيل الكاتب عمار بلحسن، والوضع الثقافي في الجزائر لا يزال كما وصفه في دراساته عن المنبر الغائب، والحداثة المعطوبة. القرّاء المشارقة يعرفون عمار بلحسن من خلال دراسات نشرها في مجلة «المستقبل العربي»، ولا سيما دراسة تناول فيها علاقة الإسلام بالإبداع الفني، وكان منطلقها كتاب ظهر في فرنسا حاور فيه عدداً من الكتّاب العرب في نظرتهم إلى الإسلام. كما قد يكونون اطّلعوا على الكتاب المشترك الذي أشرف عليه ترجمةً وتقديماً تحت عنوان «أنتلجانسيا أم مثقّفون في الجزائر»، وصدر في بيروت عن «دار الحداثة». ربّما تعرّف إليه بعض كتّاب المشرق في واحد من الملتقيات الفكرية والأدبية التي شارك فيها هنا وهناك.
بدأ بلحسن مسيرته في الكتابة الأدبية فتميّز بخروجه عن المألوف القصصي الجزائري منذ أول مجموعة صدرت له بعنوان «حرائق البحر»، تلتها «أصوات» فـ«فوانيس». يقول الناقد بشير خليفي: «في مجموعته «فوانيس»، خرج بلحسن من الخطاب الذي غرقت فيه روايات وقصص جزائرية كثيرة كُتبت يومها مستجيبةً لمغريات تيار إيديولوجي محدّد. مجموعة بلحسن جاءت على شكل مناجاة لأحلام وأطياف بعيدة/ قريبة وأوصافها الشعرية البديعة، مثل وصفه لشخصية ريجينيا بهذا الشكل: ريجينيا البولونية اليافعة ذات الجمال المتعالي، بسحنتها العسلية المحمرة كأنها قليت في زيت الزيتون وأطفئت في عسل حر». أمّا «حرائق البحر» فيقول عنها القاصّ ضيف الله عبد القادر «من خلال عشر محطات قصصية، يفجّر عمار أسئلة الإنسان البسيط في صراعه مع اليومي، يأخذه في ذلك مدّ الوجع وتجذّر الخيبة. ووسط كل ذلك، يرمي نفسه في قلب المواجهة لينشب رماح أسئلته التي جوهرها الحب».
استطاع عمار بلحسن أن يكسر نمطية السرد القصصي، ويحوّل القصة إلى لوحات شعرية جميلة خالقاً شخصيات سحرية وخصوصاً تلك النسوية مثل ريجينا واريس. قبل أن يرحل بعدما داهمه السرطان، كتب «يوميات الوجع» التي صدرت في طبعة محدودة عن «جمعية الجاحظية» التي يرأسها الطاهر وطار وقد كان مدير تحرير مجلة «التبيين» الصادرة عن الجمعيّة. سرد بلحسن في المجموعة علاقته بالموت، وهو يكاد يكون في شعريته تحفةً نادرةً في الكتابة عن الموت الآخذ في الاقتراب منه. نصوص في الفن، والفلسفة والموسيقى وعلاقته ببيتهوفن، في حكمة الرحيل والعلاقة مع الله والدين والعائلة وغير ذلك من مواضيع تناولها وهو على فراش المرض.
لكنّ شغفه بالإبداع لم يحل دون تسجيل حضوره الفكري في المجال السوسيولوجي، أو علم الاجتماع الأدبي والثقافي. وقد أخذ هذا الأخير نصيب الأسد من بحوثه ووقته. هكذا، قدّم بلحسن دراسات هامة عن سوسيولجية القراءة والرواية، وكانت له بحوث في قضايا الثقافة الجزائرية والإنسان الجزائري. إذ قال عنه إنّه «شخصية تختزن طاقات نفسيّة واجتماعية كبيرة، محبة للحياة، تملك آفاقاً متفتّحة لغةً ومعيشاً من دون معرفة تاريخية لنفسها وماضيها وحاضرها ومستقبلها، تعطيها سلوكيّات أخلاقية متّزنة. تعيش تمزقات واختلالات على مستوى الهوية، لا تتطور إلا عبر المواجهات والمجابهات العنيفة». وهذا ما يؤكده المبدع محمد بوزرواطة «تنبّه عمار بلحسن باكراً إلى أهمية العامل الثقافي في صياغة مشروع مجتمعي مفتوح على قيم الحداثة والتسامح والاختلاف، للخروج من دهاليز الظلمة وحالة الوهن، من دون وجود مؤشرات للانفراج والحل».
حاول عمار بلحسن تلخيص هذه المآزق في إحدى مخطوطاته التي لم تبصر النور حتى اليوم، بعنوان «كشف الغمّة في هموم الأمّة»، ودعا فيها إلى ضرورة تثقيف السياسة بدل تسييس الثقافة. لكن ككل المخطوطات التي ألفها، لا تزال في حوزة الروائي الطاهر وطار، ولم تنشر بعد رغم وصية بلحسن بأن يتكفل هذا الأخير نشر أعماله لاحقاً.
يقول الصحافي والكاتب أحميدة عياشي: «كان عمار بلحسن في حد ذاته عبارة عن مشروع كتابة متعدد وطموح. لكن هذا المشروع توقف عند منتصف الطريق. وكان نصه الأخير المرعب، شهادة على قساوة المرض والموت. تمنيت لو تذكرت الجزائر هذا الكاتب. لو أعادت نشر نصوصه الكاملة في الإبداع والبحث والتأمل... ليس فقط كي لا ننسى، لكن لإعادة بناء المعنى لمسار الكتابة الجديدة في الجزائر».