strong> ياسين عدنان
وأخيراً صارت للرواية المغربية ثلاثيتها الخاصة. ثلاثيةٌعن الدار البيضاء، وبالضبط عن عمقها الشعبي النابض حيث تعيش الطبقات المقهورة التي تكابد صعوبة العيش وصعوبة الوطن. إنها رواية «درب السلطان» التي أصدرها الروائي المغربي مبارك ربيع موزعة على ثلاثة أجزاء: «نور الطلبة»، «ظل الأحباس» و«نزهة البلدية».
ثلاثة أجزاء تُحيل عناوينُها إلى ثلاثة من أهم أحياء منطقة درب السلطان: درب الطلبة، حي الأحباس، ودرب البلدية حيث سبق للمخرج الراحل محمد الركاب أن صوَّر فيلمه «حلاق درب الفقراء» في الثمانينات من القرن الماضي. وإذا كان بعضهم اتهم ربيع بالنسج على منوال نجيب محفوظ وهو يعطي كل جزء من ثلاثيته عنواناً يحيل على حيّ من أحياء الدار البيضاء، فإن هذا الأخير وسم عمله بعنوان موحِّد وهو ما لم يحدث مع محفوظ الذي لا نعرف لثلاثيته اسماً خارج عناوين أجزائها: «بين القصرين»، «قصر الشوق»، و«السكرية».
في عمله الضخم الصادر عن «شوسبريس»، كتب مبارك ربيع عن أهالي «درب السلطان» أحد أهم التجمعات السكنية الضخمة في الدار البيضاء. كتب عن فتوات الحي وعاهراته، عن مناضليه وسماسرته، عن أعيانه ومجاذيبه. لكنَّ سكّان درب السلطان الذين احتفت بهم الثلاثية لم يكونوا أكثر من كومبارس، لأن البطل الحقيقي للعمل هو درب السلطان. هذا الحي الذي تعرَّض لاختبار الزمن وخرج منه منتصراً لأنه حافظ على هويته واحتفظ لسكانه ـــــ رغم كل مشاكلهم ـــــ بحد أدنى من روح التساكن وحلاوة العيش.
ومع نهاية الجزء الثالث، لن يتردّد سكان درب السلطان في الذهاب جماعياً إلى السجن لزيارة فتوتهم علي الشخش متناسين أنهم ظلوا ينتظرون بفارغ صبر اليوم الذي يتحررون فيه من حضوره الفظ بينهم، ومغامراته غير المحسوبة التي لم تجُرَّ على حيّهم سوى الويلات. أيضاً بعد وفاة الهبطي المعتوه سيقيمون له جنازة عظيمة رغم أنهم قضوا عمرهم يكيلون له الشتائم. إنه مزاج درب السلطان الغريب، المتقلب والمتسامح، ومزاج الدار البيضاء الذي لم تشتغل عليه الرواية المغربية بعد.
ثلاثية «درب السلطان» جاءت أساساً لتُصالح مدينةً كالدار البيضاء مع روائيي هذا البلد. فإذا كانت السينما المغربية اشتغلت بشكل مكثف على هذا الفضاء بدءاً بفيلم «حلاق درب الفقراء» للراحل محمد الركاب، مروراً بأفلام «حب في الدار البيضاء» و«بيضاوة» لعبد القادر لقطع، «كازابلانكا باي نايت» لمصطفى الدرقاوي، « الدار البيضاء.. الدار البيضاء» لفريدة بليزيد، و«الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء» لمحمد العسلي.. فإن الرواية المغربية لم تستثمر بما يكفي فضاءات العاصمة الاقتصادية للمغرب.
والواقع أن الدار البيضاء ليست وحدها المدينة التي همَّشتها الرواية المغربية. فخارج استثناء طنجة التي أخلص لها محمد شكري، ليست هناك مدينة مغربية واحدة نجحت في أن تُحقق لها حضوراً خاصاً في الرواية المغربية على رغم أنّ المدينة تُعد اليوم مادةً أساسيةً في الرواية العالمية والعربية أيضاً. حتى مراكش، المدينة المغربية الأكثر جاذبية وسحراً، ما زالت بعيدة عن أن تنال المكانة التي تستحقها في المدوّنة الروائية المغربية. لقد كتب كلود أوليي عن عاصمة المرابطين رائعته «مراكش المدينة»، وكتب عنها إلياس كانيتي «أصوات مراكش»... لكن الروائيين المغاربة لم يعثروا بعد على الوصفة التي تمكّنهم من استثمار أجواء مراكش ومزاجها في عمل روائي يليق بها.
لقد تعرف القراء المغاربة على القاهرة من خلال روايات نجيب محفوظ، وعلى بيروت ودمشق وعمان من خلال العديد من الروايات المشرقية، لكن المدينة المغربية ما زالت لم تُقنع بعد مهندسي الرواية المغربية كمعمار يمكن أن يؤسسوا عليه مشاريعهم السردية والتخييلية. ثلاثية «درب السلطان» تقترح نفسها في هذا السياق كمغامرة واستثناء، وهنا بالضبط تكمن أهميتها.