خليل صويلح
جيل الثمانينات الشعري في العراق واكب أصعب حقبة عاشتها البلاد، أي الحرب العراقية الإيرانية. وإذا بعشرات الشعراء يتحولون ــــ رغماً عنهم ــــ وقوداً لهذه الحرب. وسط هذا المناخ الملتهب، وجد أبناء هذا الجيل أنفسهم في مهب الضياع والتيه البدوي، ليتكشف المشهد عن رماد كثيف، ورؤية مشوّشة، وفزع وجودي أطاح تجارب هؤلاء الشعراء في خريطة ممزقة. هكذا، كانت المقاهي الملاذ والخيمة المؤقتة لبدو رحّل هائمين على وجوههم، يتأبطون نصوص الريبة والخوف والتمرّد.
في كتابه «حطب إبراهيم أو الجيل البدوي» (دار التكوين ــــ دمشق)، يرسم محمد مظلوم خريطة افتراضية لشعراء الثمانينات في العراق، وما لحق بهذا الجيل من عسف ورعب في «صحراء ما قبل النار والحطب» وما بعدها. فالعراق، حسب ما يشير مظلوم، هو نتاج تفكير بدوي أكثر منه كيان دولة مدنية، ما انعكس جلياً على تجارب الشعراء أنفسهم. منذ الثمانينات حتى اليوم «ازدهرت المنافي والمقابر، وصعدت الدكتاتورية، واشتعلت الحروب، وتعددت أشكال الحصار، ونشطت الحركات الأصولية على حد تعبيره. وتعاضدت ظروف محلية وإقليمية في وجه «الجيل البدوي»، رغم أن أبناء هذا الجيل ينتمون إلى ثقافة أخرى مغايرة: «إنهم بدو لأن تخوم حياتهم تقع بين الحرب والمنفى... تماماً كحياة البدوي في الهجرة والترحال ومواجهة الأخطار في الأمكنة المفتوحة على احتمالات قاسية».
خلافاً للكتب التي أرّخت حقب الشعر العراقي مثل «الروح الحيّة» لفاضل العزاوي عن مرحلة شعراء الستينات، و«الشاعر الغريب في المكان الغريب» لشاكر لعيبي الذي رصد التجربة الشعرية في سبعينات العراق، فإن محمد مظلوم يعالج الإرث الشعري في منهج مغاير، ينسف نظرية الأجيال وينهض على خلفية سيسيولوجية وسياسية تفكك أطياف مرحلة مظلمة تاريخياً ونقدياً، امتزجت فيها «الغربة بالاغتراب والهروب بالملاحقة». وإذا بشاعر الثمانينات أسير مصيره الفردي في صحراء التيه والمنافي، أو في خندق «مديح المعسكرات وفجر البنادق»، إضافة إلى «شعراء التعبئة والقصيدة المدججة». ويستدرك مظلوم أنه في نهاية المطاف، إذ يؤرخ لتلك المرحلة عن كثب ومعايشة، فإنما يفعل من موقع الاشتباك مع نصوص الثمانيين بوصفه أحدهم، وليس من يحمل أختام «كاتدرائية الثمانينات».
القفص الضيق لنصوص شعراء هذه المرحلة، قاد بعضهم إلى مناوشة أشكال تعبيرية لا تصب في خانة منابر السلطة وهتافها للحرب والخراب، فكانت قصيدة النثر هي الملجأ الأثير لنص إشاري، يعمل على القصيدة المرئية، والكتابة الحروفية، وتقنيات البياض الفادح، والمجاز والتنقيط والرموز الأسطورية واستحضار صورة الغائب عن طريق مزج اليومي بالأسطوري. إلى ذلك، يذكّر مظلوم بأن النقد الجدّي أهمل هذه التجارب.
في «المتاهة من الداخل»، يقرأ مظلوم تجارب شعراء جيله تطبيقياً ويشير إلى أصوات لافتة مثل باسم المرعبي، وصلاح حسن، وناصر مؤنس، ونصيف الناصري، وضياء الدين العلّاق. كما يخصص فصلاً بعنوان «عذراً لهذا الإسطبل» للشاعر آدم حاتم الذي وُجد ميتاً في دمشق (1993)، وقد عاش حياته صعلوكاً وشريداً ومارقاً، فكان شاعر تجربة بامتياز، ينطق بنبرة خشنة وصريحة تعلن فرادة آلامه وأوجاعه في المنافي، إلى أن تعطلت حواسه لتصدر مجموعته الشعرية الوحيدة بعد رحيله بعنوان «لا أحد»، فكان في شهقته الأخيرة نموذجاً لبدوي مصلوب آخر.