strong> حسين بن حمزة
  • كردي ينتظر «غودو» بين أنفاق استوكهولم


  • في السرد، كما في الشعر، نصّه مجبول بالبلاغة. وروايته الجديدة المرصّعة بالألغاز، تدور أحداثها في السويد حيث يقيم هذا الشاعر السوري الذي يقف على حدة فوق خريطة الأدب العربي الحديث

    ما إن ينتهي القارئ من رواية سليم بركات الأخيرة «السلالم الرملية» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) حتى يقول لنفسه: حسناً... يمكنني الآن العودة إلى الواقع والحياة الاعتيادية. ولعل قارئاً غير صبور، وغير مستعد لبذخ سليم بركات المعجمي وخصوبة مهاراته البلاغية الأخاذة، سيضجر قبل اكمال الرواية.
    بركات يكتب رواية فانتازية، يمكن القول إنّها من اختراعه ولن تحدث في الواقع أبداً. ففي حدود علم القراء العاديين، لم يحدث أن كتب أحدٌ رواية عربية محشوة بهذا المقدار من الشعر والتخييل والتوريات والابتكارات اللغوية. ولعل رواية كهذه لا تتوافر في آداب ولغات أخرى...
    القارئ يعرف أنّ بركات لا يعبث، وأنه يحتفظ بأصل واقعي ما لروايته، إلا أن النتيجة النهائية أن الغرائبية والغموض يسودان عالم الرواية. تتحول الكتابة إلى لعبة أسلوبية يجاري فيها المؤلف مهاراته وقدراته، غير مكترث بأنّ الرواية ستخاطب قراء من شرائح متفاوتة. لا يهتم بركات إذا زادت الحمولة التخييلة على حساب السرد الروائي أو إذا انجرفت الرواية إلى حجب كل تفصيل واقعي بغلالات رقيقة أو سميكة من الترميز أو إذا كان انهماكه الدائم في التوريات يؤثر سلباً في حسن سير الرواية. وهذا يعني أنّ رواية بركات تطرد طائفة واسعة من قراء الروايات الاعتيادية.
    سرد بركات، مثل شعره، لا يقيم في أعالي البلاغة فحسب، بل في أعاليها الأكثر وعورة أيضاً. ما من عبارة أو مشهد يمكن أن يمر في نصه خالياً من ممارساته البلاغية إلى حد يمكن القول إن روايته تنتمي إلى الخيال المعجمي، مثلما يُقال عن فيلم ينتمي إلى «الخيال العلمي».
    تتحرك الرواية على خطّين حكائيين. الأول حديث يدور في محطات عدة لقطار الأنفاق في استوكهولم، ويتمثل في انتظار عائلة يالوه في بلدة سكوغوس قرب استوكهولم لنبي مفترض سيلبّي دعوة الأب إلى العشاء. أما الخطّ الثاني فيعود إلى زمن قديم، حيث يرسل تيغوتكين شاه (حاكم كاروكشين) ستة سعاة على جمالهم (تالماجور، وتاهشين، بالبور، جانكوه، باكالبا، بيغون) في رحلة غامضة إلى ممالك زاهينغ. يقطعون جبال كاكونت وإقليم مودابورك وصحراء لوكهين، ليدونوا هناك كتاب «التمويه على الأقدار المعلومة»، ويستنسخوا «ثقة الملتبس»، ويحضروا رقعة الشطرنج ذات الحجارة الأكثر صقالة المصنوعة من خشب «قسطل الخيل»، من أجل تعليم ابنه لنك شاه الذي يعدّه ليكون نبياً في كاروكشين.
    يتوزع أفراد عائلة يالوه على الأنفاق، إبيريم ابن يالوه يسأل القادمين في نفق سودرمالم إن كان أحد منهم جاء باحثاً عنه (الصورة تذكرنا بمَن ينتظرون في المطارات حاملين اسم ضيف أجنبي). نوهين الابن الآخر ليالوه، ينتظر في نفق فريدهيمسبلان، والضرتان ميريما وسارها، زوجتا يالوه، تتسوقان في نفق باغرموس. وفي نفق سلوسن، تجري مطاردة بين الأخوين أكيلون وبارسيس، حيث يحاول الأول قتل الثاني الذي يقول له إنه لن ينجح إلا إذا صوب سهمه إلى رضفة ركبته اليسرى (ينجح في إصابته في نهاية الرواية). وفي نفق هوفودستا، نجد الأختين سالوميا وهيدجيرا. وفي نفق رينكبي، يكتشف يوش أن القطارات لم تعد تمر فيه. ثم نجد أشمانو ينتظر النبي الموعود في نفق رودمانشغاتان، وفي نفق شارهولمن، تنتظر الابنة ليداليا. وفي المحطة الرئيسية «سنترال»، نجد يالوه نفسه ومعه عائلته كلها. ثم تجتمع العائلة في البيت منتظرة النبي على العشاء. لا يأتي النبي، بل تأتي امرأة ومعها كلبها وتدعي أنّ البيت ملكها، ثم تغادر، بينما ينجح بارسيس في قتل أخيه أكيلون.
    فكرة النبي الموعود تجمع خطي السرد. ففي رحلة السعاة الستة، يلتقي هؤلاء برجل لا يلبث أن يحتضر بين أيديهم، ويجدون في متاعه شيئاً من كتاب «ثقة الملتبس» وصندوق الشطرنج المطلوب. في تلك اللحظة، يسأل بالبور رفاقه: «أكان هذا الغريب يهيّئ لظهور نبي في قومه؟». بالبور وباكالبا يقرران العودة بالكتاب والشطرنج إلى كاروكشين، بينما يرفض الأربعة الباقون العودة. أثناء العودة، يقطع عليهم تسعة أنفار الطريق ويسلبانهم متاعهم بينها الكتاب والشطرنج. يقولون لهم: «أعيدوا إلينا متاعنا، أو اقتلونا». فيجيب زعيمهم: «لا نقتل من لم يتدبروا لأنفسهم نبياً بعد».
    في «السلالم الرملية»، اعتنى بركات بكل ما من شأنه أن يجعل عمله غرائبياً وغامضاً وبعيداً عن الواقع. الرواية، وهي الرابعة عشرة له، مكتوبة وفق هاجس إيقاعي وشعري. السرد بنبراته العادية مستبعد كلياً. البنية الإيقاعية (أكاد أقول الموزونة) تفرض قراءة بطيئة ومتمهلة على القارئ، كي يلمّ بالمعاني المدفونة تحت حركة الابتكارات والانزياحات التي لا تتوقف. الأسماء والتسميات الغريبة تضيف جرعة أخرى من الفانتازيا والمشقة على الرواية. لا تنجو أي كلمة في الرواية من حمولة الفصاحة والمتانة، ولا يسلم أي تفصيل صغير من «شر» النبرة غير المروّضة لصاحب «كهوف هايدراهوداهوس».
    مثال على ذلك، وصفه ــــ على لسان أفراد عائلة يالوه ــــ الرسوم والملصقات والموجودات التي تزين جدران الأنفاق، كما هي الحال حين يكتب عن «كهف الصرافة» (الصراف الآلي): «في اللوح الزجاج جحور تتبادل الأيدي، عبرها، المكاشفات الأزلية، المحصورة في تحويل المال إلى إيمان بالأمكنة، والأقاليم، والدول، والعناصر التسعة للطبائع المنفصلة عن أمهاتها، فتتطابق بحكمة الميثاق في ورقٍ نقدٍ، أو معدنٍ مصكوكٍ. نقدٍ ناطقٍ بلسان التراب والماء الإلهيين».
    قد ينسى القارئ بعد صفحات قليلة أنّه يقرأ رواية. ولا يبقى أمامه ــــ إن كان من هواة هذه الكتابة ــــ الا التلذّذ بمهارات سليم بركات وفتوحاته اللغوية. وربّ قارئ آخر سيسأل: أين الرواية في كل هذا المعمار الغرائبي والتخييلي والمعجمي؟